عبد العزيز مريد...فنان القضية
Habib Benmalek
مع Abdeslam EL BAHI، Aziz Mouride، Abdellah EL HARIF، Abdallah El Harif وSion Assidon.
الراحل عبد العزيز مريد: أخرجت الشيطان الذي يسكن البلاد بكاملها(!!)
سعيد منتسب نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 04 - 2013
صباح الثلاثاء الماضي، وبعد مرض لم تنفع معه قوة المقاومة التي تميز بها في مواجهة الجلاد والمعتقل، رحل المبدع والمعتقل السياسي السابق عبد العزيز مريد. ويعتبر الراحل، الذي قضى في درب مولاي الشريف والسجن المركزي بالقنيطرة عشر سنوات (1974- 1984)بسبب أفكاره السياسية وانتمائه لمنظمة «23 مارس»، أحد مؤسسي جنس القصص المرسومة مغربيا.
وإذا كانت تجربة الرسم لديه قد انطلقت خلف القضبان، فإنها وصلت أوجها مع إصداره لقصته المصورة الأولى سنة 2001: « إنهم يجوعون الفئران تجويعا» (دار النشر طارق).
في هذا المؤلف الصادر باللغة الفرنسية وباللونين الأبيض والأسود، يسترجع مريد تجربة الاعتقال والتعذيب بكل أشكاله والمحاكمة غير العادلة التي اكتوى بنيرانها في مغرب سنوات الرصاص.
وبالإضافة إلى إبداعاته في مجال القصة المرسومة، مارس الراحل التشكيل والنقد، كما مارس العمل الصحفي.
في ما يلي نعيد نشر الحوار الذي أجريناه معه في صيف 2001.
} نهنئك على هذا الكتاب الجميل والرائع الذي يجسد محنة جيل كان يحلم بإشراقة شمس على وطنه، وخصوصاً جيل اليساريين الذين اعتقلوا وعذبوا وقتلوا في أقبية الظلام والظلم والعار، في ظل سلطات القمع التي كانت تنشر رعبها وقتامتها وكوابيسها في كل حلم، تحملوا ذلك من أجل أفكارهم وتوقهم إلى نظام سياسي قوامه الحرية والكرامة والديمقراطية..
نهنئك على هذا الكتاب الذي نعتبره دليلا على ذاكرة جماعية، نريد أن نتعرف معكم على الظروف المؤسسة لكتابة هذه الذاكرة؟ متى جاءت الفكرة؟ وما هي الصيرورة التي معها وأين أنجزتها؟
الكتاب يرجع تاريخه إلى 1980، بعد الإضراب عن الطعام الذي وصل الى 45 يوما، حين قمنا في السجن المركزي، نحن مجموعة مكونة من 139 معتقلا سياسيا وكان بيننا مناضلون من الاتحاد الاشتراكي بإضراب عن الطعام احتجاجا على ظروف الاعتقال.
بعد الإضراب، كنت في وضعية صحية خطيرة، وكان علاجي الأساسي هو الرسم والرياضة، هكذا قررت أن يكون العلاج، أن أدون عبر الرسم كل هذه البشاعة التي عبرت أجسادنا وعقولنا وزهرة أيامنا، قلت مع نفسي، لا يمكن أن نعيش كل هذه الفظاعات بدون أن يسجلها التاريخ. لقد لاحظت أن أجيالا من المعتقلين السياسيين الذين عانوا المحن، منذ الستينيات لم يسبق لها أن دونت تجربتها, نحن جميعا نعرف أن مناضلين وشهداء أفذاذ كلهم مروا من هناك، من هذا الظلام الذي كان يخنق المغرب، كلهم ضحوا في سبيل هذا الوطن، سواء في فترة الاستعمار أو أثناء مرحلة الاستقلال، لكنهم لم يتركوا للأجيال اللاحقة شيئاً، حيث أصبحنا نعيش أحداثاً بدون أن نؤرخها أو نودعها بين أيدي التاريخ كشهادة ,أصبحنا نقع خارج التاريخ، لأننا لا ندون ذاكرة المرحلة.
هكذا بدأت أكتب وأرسم قصة معاناتنا من أولها إلى آخرها، كيف اعتقلنا؟ ماذا جرى لنا في المعتقلات؟ أنواع التعذيب التي كابدنا في »غرف العمليات« الخاصة؟
وبطبيعة الحال، كانت حملات التفتيش في مرحلة الاعتقال مكثفة ويومية، فرغم نجاح الإضراب وتحقيقنا للقليل من الحرية والمكتسبات، كانت المداهمات يومية.. غير أنني كنت أرسم وأرسم في أوراق صغيرة، وأبعثها إلى الخارج عبر العائلة الأصدقاء الذين كانوا يزورونني, حتى تمكنت من الانتهاء من الكتاب.. وبالفعل، رحل الكتاب الى بلجيكا، هذا ما علمته وأنا رهن برودة الاعتقال، ومنذ ذلك الحين، انقطعت كل المعلومات المرتبطة بمصير الكتاب عني، لكنني عرفت فيما بعد أن كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق قرأ الكتاب، وعرفت أن الجميع في »أمنستي« الدولية قرأ الكتاب، ومجموعة من الحقوقيين في العالم تمكنوا من قراءة الكتاب وتأثروا به، وساهموا في الدفع لإطلاق سراحنا.
في ذلك الوقت، لم أكن أعرف كل ما صنعه هذا الكتاب.. على سبيل المثال، نشرت »ليبراسيون« الفرنسية رسومات منه على صدر صفحتها الأولى، كذلك »لوموند« وجرائد أخرى كانت تصلني عنها الأصداء فقط.
لم أر الكتاب إلا بعد خروجي، وجدت أن الرسوم لم تكن في المستوى، لأنني كنت مريضاً ويداي ترتجفان، لذلك قررت أن أعيد رسوم الكتاب كلها.
كانت لدي نسخة من الرسوم داخل السجن، لكنني أضعتها لما خرجت، ولم أحصل على نسخة جديدة إلا في سنة 1999 حين حملتها إلى صديقة أمريكية، لم تكن كتاباً، بل نسخة كاربونية من الكتاب، حينها قررت أن أعيده من جديد، بمنطق سردي جديد، وأن أعمل على تحيينه بما يتلاءم مع هذا المنطق.
مباشرة شرعت في العمل، أربعة أشهر قضيتها ملازما البيت، أرسم وأرسم، حتى اكتمل العمل الذي بين يديك الآن.
} اسمح لي أن أسألك: لماذا اخترت الرسوم وليس الكتابة؟
رغم أنني صحافي قضيت 15 سنة وأنا أكتب، فإنني لم أستطع لحد الآن أن أصوغ كلمات لوصف البشاعة، إنني أحيي جميع الأصدقاء والرفاق الذين استطاعوا أن يكتبوا ولو أنكم لاحظتم من خلال هذه الكتابات أن كل من عبد القادر الشاوي وصلاح الوديع وأبو يوسف، وعبد اللطيف لم يكتبوا التجربة بشكل مباشر..
} تقصد أنهم صبوا هذه التجربة في قالب روائي، يمتزج فيه الخيال بالتجربة والواقع بالأدب؟
نعم، كتبوا عن التجربة كموضوع أدبي غير مرتبط بالذات والمعاناة الشخصية، كانوا يلفون حول الموضوع، دون أن يترجموا حقيقته وهي تقوم بجلد أجسادهم وذاكرتهم..
} هل كنت تعتقد وأنت ترسم التجربة بكل هذه الفظاعة والبشاعة التي تطل من الرسومات أن الصورة المرئية أكثر تعبيراً من الكلمات؟ هل هناك قصدية معينة؟
لا أستطيع أن أكتب، هذا شيء فوق قدرتي، حاولت لكنني عجزت..
} لكننا نلاحظ، نحن قراء هذا الكتاب أنه مليء ليس بالحوار بين الشخصيات، بل بالتعاليق التي تمنح الموضوع قوة في الشكل والمعنى.
تماما، أولا، أنا رسام، ولدي إمكانية للتعبير بالصورة والرسومات، وهذا كما تعلمون عصر الصورة، والصورة القوية يمكنها أن تلخص مقالا بكامله، بل يمكنها أن تكون أكثر تعبيرية وأكثر نجاحاً في توصيل المعنى.. حين عجزت عن الكتابة لذات الرسم..
} إذن، المسألة ليست اختياراً مفكراً فيه..
لا، إنه العجز، نعم العجز.. أنا عاجز عن الكتابة، ويمكنني أن أقول إنني أعاني من حالة انحصار قوي يمنع كل الأشياء التي أخبئها في أعماقي في الخروج، لا يمكن لأية كلمة أن تترجم بدقة وصدق هذه الأشياء.. لذلك، صادفتني الصورة أو صادفتها، وجدت فيها الإبداع الفني الذي يمكنه أن يربط تجربتي بما يمكن أن نسميه التعبير.
هذا ما أردت أن أصل إليه من قبل: هل الصورة أكثر تعبيرية وفنية وصدق من الكلمة...
شخصيا، حين اطلعت على الكتاب وجدته أكثر تعبيرية عن كل الفظاعات التي تحدث في أقبية الاعتقال السرية من الكلمات.. فالعبارة في مثل تجربتكم أضيق من التجربة.. الواقع أكبر من الكملة والصورة في مثل هذه الحالة، تعبر عن امتداد التجربة في لحظة معينة وهو ما لا تستطيع الكلمات فعله نظرا لخطيتها وارتباطها بالوصف اللغوي الامتدادي في الزمن زمن الكتابة والقراءة معا.
الرسم تعبير ولغة له منطلقه ومعاييره الخاصة. وقد حاولت في رسوماتي أن أوفق بين الفكرة التي أروم إيصالها والتعبير الفني.
} اثارني في هذا الكتاب شيء أساسي جعلني ارجع إلى مرحلة الطفولة أو الشباب الأول حين كنت ومجموعة من الأصدقاء من جيلي المتمدرسين وغير المتمدرسين, نلتهم قصص وحكايات الرسوم المصورة من قبيل سلسلات »روديو« وليس »ألبمراكس« و»كابيت سوينغ« و»زامبلا» و»كيوي وبليك« و»اكيم« الخ.
هل كنت أيضا في طفولتك من هواة قراءة هذه السلسلات؟ وإذا كنت كذلك ما حجم التأثير الذي أحدثته فيك كرسام وكاتب؟
بطبيعة الحال هناك تأثير للعديد من الرسامين العالميين الذين كانوا يبدعون هذه السلسلات، أنا قارئ قديم للرسوم المصورة واعتبرها دائما شكلا من أشكال التعبير البطل وهذه مسألة ليست سهلة.
وإذا لاحظت فإن النصوص أو التعاليق المقترنة بالرسوم ذات شحنة تعبيرية وفنية مهمة ليس فيها أي ابتذال.
} حين شرعت في قراءة الكتاب لمست حضورا مستترا للجانب السير ذاتي.. هل هناك فعلا سيرة ذاتية تنكتب عبر صفحات الكتاب بشكل محتشم وغير واثق, كأنك لا تريد أن تعكس هذا الجانب الذاتي.
.. نعم، هناك حضور للجانب السير ذاتي ولكنه حضور غير مباشر، لأنني نسبته إلى شخص آخر, ثم أنني أميل إلى الحديث عن عملي كشهادة، وليس كسيرة ذاتية. الشخص الذي يكتب مذكراته في آخر الكتاب هو أنا، أنا الذي أصابني العمى، وذهبت إلى المستشفى وعانيت من مضاعفات الاضراب.. لكنني وجدت أنه من الأفضل أن أنسب كل هذه الوقائع والفظاعات إلى شخص آخر, هناك أشياء تخصني في هذا الكتاب، لكنني رفضت أن أقدم شهادة شخصية لأنني اعتبرت أنه ليس من المعقول أن أنسب إلى نفسي تجربة جماعية. ربما تكون قد لاحظت أن الأنوية (أنا.. أنا.. أنا) منعدمة هناك (نحن) ومجموعة من المشاهد لم تقع لي وحدي، بل تشمل تجربة جيل بكامله.
والقضية التي أريد أن ألح عليها هي أن هناك ثلاث مراحل في الكتاب: مرحلة التعذيب, ثم مرحلة المحاكمة, ثم مرحلة النضال من أجل تحسين الأوضاع في المعتقل.
مرحلة المكافحة اعتبرها جانبا مركزيا في الكتاب، لأننا كنا بالفعل بصدد بناء دولة الحق والقانون، فلا يمكن أن نصل إلى هذا المطمح بدون إصلاح القضاء. فمستوى القضاء عندما هزيل جدا وما صورته في الكتاب شهادة بسيطة عن هذا الابتذال والسقوط الذي يعيشه قضاؤنا.
} هل هذه الشهادة بمثابة تخلص من ثقل الذاكرة؟ هل شعرت، وأنت ترى كتابك يولد بين الناس في مغرب الان بنوع من الراحة والاطمئنان.
»شوف يا منتسب» تجربة الاعتقال التي مررنا بها كجيل ليست موضوعا للسخرية والمزاح عندي. لا أطيق أن يتحدث معي أي شخص عن هذه التجربة. وكأنه يتحدث عن شيء بسيط وعاد وقع ذات يوم و انتهى. أنا حين أنجزت هذا الكتاب أردت أن أتخلص من ثقل جسيم فوق ذاكرتي، وأن أساهم في تخليص ذاكرة جيلي من كل البشاعة التي عبرتها.
} هل أحسست فعلا وصدقا، أنك تخلصت من جرح داخلي؟
بطبيعة الحال. بطبيعة الحال..
} هل يمكن لعمل تعبيري وفني ان يساهم في تحقيق ما يمكن ان نسميه بالتطهير بالمعنى الارسطي، أي الاغتسال من التوتر.؟
هذا يقع في كل مكان، في الشيلي وكواتيمالا.. الخ.. الناس يتكلمون في التلفزيون والصحف، ليخرجوا ذلك السواد والحقد، ذلك الشيطان الذي يسكن حواسهم والذي سكن البلاد بكاملها.
لا يمكن أن نتقدم خطوة نحو الديمقراطية وحقوق الانسان ونحو احترام أنفسنا، ما لم نتعرض للتطهير.
} ألا تعتقد معي أن ذاكرة الاعتقال السياسي هي ذاكرة جسد أساسا ومن الصعب على أي عمل إبداعي أو تعبير فني بشكل عام أن يمحو ذاكرة القمع والارهاب بسهولة. بل إنه يساهم فقط في تلطيفها و التخفيف من حدتها.
ذاكرتنا لايمكنها أن تمحي. لكن من الضروري أن نضع هذه الذاكرة أمامنا بشجاعة. نحن لا نخطو نحو النسيان، وليست هذه رغبتنا. مهمتنا ان نؤرخ هذه الذاكرة لأنها جزء من تاريخنا. من منا عرف شيئا عن المرحلة الاستعمارية؟ شخصيا أؤاخذ المغاربة لأنهم لم يتحدثوا عن الاستعمار الذي تحول بفعل الصمت الى مجموعة من النكت والمستملحات، لماذا وقع الاستعمار؟ ماهي التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي سهلت دخول الاستعمار؟ هذا مهم.
} سؤال آخر أريد أن أطرحه عليك، هل تعتقد ان ذاكرة الاعتقال السياسي لن يكتبها الا المعتقلون السياسيون. ام أنها لن تنكتب بصورة دقيقة وكاملة إلا إذا ساهم فيها الجلادون وعائلات الضحايا؟
أتمنى أن يساهم في كتابة هذه الذاكرة علماء الاجتماع، وعلماء النفس والمؤرخون والاطباء ورجالات مختلف العلوم الانسانية بشكل عام وبطبيعة الحال، لا يمكن لهؤلاء ان يساهموا في كتابتها اذا لم تكن بحوزتهم معطيات كافية.
أما إذا رغب الجلادون في المساهمة، فأنا سأكون سعيدا جدا، لأنهم بدون شك، سيغنون التجربة من زاوية أخرى وبنظرة أخرى مغايرة تماما.
مساهمة هؤلاء ستعبر عن تلك العقلية التي نكلت بنا، ستعبر أيضا عن منطق الصراع.سيفهم الجميع أن القمع لا يبني مجتمعا، بل يهدمه. أتمنى أن يكون هناك حوار حول الذاكرة، بدون حقد أو كراهية أو رغبة في الانتقام.
رحيل عبدالعزيز مريد.. فنان قلم الرصاص الذي رسم «سنوات الرصاص»
اشتغل في أخريات حياته على تحويل «الخبز الحافي» لمحمد شكري إلى رسومات «بوند ديسيني»
حكيم عنكر نشر في المساء يوم 12 - 04 - 2013
ودع الدنيا الفانية، أول أمس، الفنان والكريكاتيرست المغربي عبدالعزيز مريد بعد مرض ألم به، وشيعه قلة من أصدقائه ومن رفاقه في درب الكفاح المرير.
عبدالعزيز قصة إنسانية ورمز من رموز الفعل النضالي في زمن سنوات الرصاص، ابن الدار البيضاء، ورفيق حبشي والوديعين صلاح وعزيز ورشيد فكاك.
سيرسم كتابا عن تلك التجربة القاسية في درب مولاي الشريف وفي سجن القنيطرة، أسماها «إنهم يجوعون الفئران». إنه نموذج المناضل الحقيقي، والفنان العصامي وابن عين الشق الذي ارتبط بهموم الشعب منذ البداية.
يكتب مريد بقلم الرصاص «إذا الشعب يوما أراد الحياة» بخطه المميز، ويعلق متهكما «أكتب عن سنوات الرصاص بقلم الرصاص».
هو بالفعل عميد الصحافة والكاريكاتير والصور الثابتة، أعاد ترتيب حياته وحياة زملائه المعتقلين كقطع، وتصفيفها وتقديمها من جديد.
مريد ليس رجلا عاديا ولا مواطنا مغربيا، كان يمر جنب الحائط. لقد جسد أحد أقوى لحظات المقاومة، وهو لم يندم يوما على تلك التجربة التي خاضها من أجل وطن أجمل.
قيمة الحرية بالنسبة إليه أهم شيء والإحساس بها تتحقق في المجتمع المغربي يثلج الصدر في نظره، ولكنه مع ذلك لا يعتبر أن الأمور حسمت أو انتهت، بل «مازال ما يدار في هاذ لبلاد»، وبالتالي يعتبر أن مسار تحقيق الديمقراطية طويل، كما يعترف بأن السجن لم يخلق لديه أي إحساس بالكراهية اتجاه جلاديه، ولا رغبة له في الانتقام ممن وضعوه في السجن وهو في زهرة شبابه.
في السجن تمكن من تطوير موهبته، ومن سبر أغوار هذه التجربة القاسية. يحكي عزيز الوديع عنه قصة مثيرة، لما كانوا جميعا معتقلين في درب مولاي الشريف، والواقعة تتلخص في أن أحد «الحجاج» ضبطه يوما وهو يصنع ب»لبابة» الخبز تمثالا صغيرا للينين. طبعا، وجدها «الحاج» فرصة سانحة لمعاودة حفلة الضرب على الجسد النحيل لمريد، فسأله عمن يكون هذا التمثال؟ فتفتق ذهنه عن جواب سريع: توحشت با ورسمتو، وبغيت ندوي معاه». طبعا ستنكشف الحيلة بعد ذلك، عندما حضر رئيس الحراس وعاين المنحوتة «الخبزية» لمريد، فرد على «الحاج»: هاذا راه رسم لينين، فكانت حفلة التعذيب من جديد.
يحكي مريد أنه أمضى عاما نصفا وهم يضعون عصابة على عينيه، منذ يوم اعتقاله، وقال إنه عندما رأى الشمس لأول وهلة، شعر بأنه في الجنة تماما.
لا يعدم مريد عبدالعزيز حس الفكاهة أو السخرية وهو يتحدث عن تجربة السجن الطويلة. يقول معلقا على الأحكام التي صدرت في حق المجموعة التي ينتمي إليها: «أخذنا 25 قرنا من السجن كمجموعة على 139 معتقلا سياسيا».
مسار السجن هو مسار الإضرابات عن الطعام من أجل تحسين الأوضاع، إضرابات متقطعة من 15 يوما و10 أيام، ثم إضرابات الحسم من 45 يوما، وصل فيها وزنه إلى 35 كيلوغراما، أصيب باجتفاف في الدماغ، كان سببا في مرضه العضال. يقول إنه كان من فرط الإضراب عن الطعام يمشي في ساحة السجن مثل السكران، في شبه غيبوبة تامة.
عاد إلى ذاكرته، ورسم تلك اليوميات، يوميات السجن، وهكذا استطاع أن يهرب كتابه الأول والمعنون ب»في أحشاء بلادي»، من السجن وطبع الكتاب في بلجيكا، وأصبح دليلا للحركة الحقوقية العالمية على ما يقع في السجون المغربية من تعذيب وحشي.
عرف الكتاب على نطاق واسع لدى المنظمات الحقوقية العالمية، وكان بداية الكشف عن ملف الاعتقال السياسي في البلاد.
يؤكد مريد أنه بفضل تلك الرسومات ووصولها إلى الرأي العام الدولي، بدأ ملف الاعتقال السياسي يجد طريقه إلى الصحافة العالمية وإلى الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وبدأت بوادر فرجة من الضوء تلوح في الأفق، أصبح الأمل في الخروج من هذا الوضع يراود النفوس، وبدا أن الانفراج قريب.
طبعا، سيجد ملف الاعتقال السياسي طريقه إلى الحل بعد سنوات من ذلك، وبعد أن تحسنت نسبيا وضعية المعتقلين السياسيين داخل السجون المغربية، واستطاع مريد أن يرسم بحرية في مرسم خاص في المعتقل.
يرى مريد أن آخرين من رفاقه في التجربة، أرخوا لها رواية أو شعرا أو محكيات أو كتابة سياسية وفكرية، ولكن مادامت لم تكن توجد صور لتلك الفترة، وكان يستحيل ذلك، فقد استطاع أن ينقل حياة السجن وظروف التعذيب إلى العالم الخارجي عن طريق الصور.
قبيل وفاته، كان مريد يعمل على تحويل رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري إلى سلسلة رسوم مصورة. لقد كان رهانه تحويل هذه الرواية التي طارت شهرتها في الآفاق إلى كتاب «بوند ديسيني»، وربما -كما يقول معارفه- يكون قد انتهى منه، لتكون أول تجربة مغربية في تحويل عمل أدبي إلى رواية صور مسلسلة.
وإذا كان من خلاصة، فهو ما يحكيه مريد نفسه بنفس ساخر، هو زاد الفنان الحقيقي، يقول إنه لما خرج من السجن، كان الشيء الوحيد الذي يخيفه هو عبور «الشانطي»، ففي السجن يحافظ السجين على نفس السلوك، وبما أنه لا توجد طرق داخل السجون، فإن أكبر تحد للمعتقل عندما يفرج عنه هو كيفية عبور الطريق من الطوار إلى الطوار.
يرى أن السجين لا يكبر في السجن. يقول «تركتنا الحياة عند نقطة، وأردنا أن نجدها لما خرجنا من السجن عند نفس النقطة». لكن العالم كان قد تغير!
حداد الثقافة : المغرب فقد ريشةً ويراعاً
محمد الخضيري
الرباط | شاءت الأقدار أن يرحل عن المغرب اسمان شقّا الطريق أمام حداثة جنسين تعبيريين مختلفين. الشاعر محمد الصباغ (1930)، ورسام القصص المصورة عبد العزيز مريد (الصورة). ترك رحيل الصباغ صدى عربياًَ، فيما كان مريد أشهر في فرنسا وأوروبا بسبب رسمه قصصاً مصورة تعكس حياة المعتقلين السياسيين إبان ما يسمى «سنوات الرصاص» في المغرب حيث اعتُقل لسنوات.
رحل الصباغ في أحد مستشفيات الرباط بعد معاناة مع مرض عضال. ولد الراحل في مدينة تطوان الملقبة بعروس الشمال. في شبابه، اطلع على الأدب المهجري الذي طبع تجربته الشعرية الأولى، قبل أن يسهم في التأسيس للقصيدة المغربية الحديثة. درس الصباغ علم المكتبات في إسبانيا، وبعد عودته إلى المغرب راكم العديد من التجارب في المجال. وكان الصباغ من المبادرين إلى تأسيس «اتحاد كتاب المغرب»، وعمل مستشاراً لوزير الثقافة ومديراً لأقسام عدة في مؤسسات وزارية مختلفة. العمل لم يشغله عن كتابة الشعر والتأليف، فانخرط في الحياة الثقافية وأصدر دواوين عدة منذ 1953، كـ«العبير الملتهب» (1953)، و«أنا والقمر» (1956)، و«فوارة الظمأ» (1961)، و«شجرة محار» (1977). وألف أيضاً مجموعة قصصية بعنوان «نقطة نظام» (1970) حاز عنها «جائزة المغرب للكتاب».
ترجم الراحل عن الأدب الإسباني، وكان ممن شكلوا جسر عبور لأدب الجار الإيبري إلى المغرب، ما قاده إلى الحصول على وسام الاستحقاق الفكري الإسباني عام 1986. الملك محمد السادس الذي تكفّل بمصاريف علاجه حين استبد به المرض، أرسل تعزية لعائلة الشاعر الراحل. وصفه فيها بـ«أحد أبرز رجالات الأدب الذين أسهموا في إثراء المكتبة الوطنية بعطاءاتهم المتميزة والمتنوعة». أما المعتقل السياسي عبد عزيز مريد، فقد رحل بصمت من دون أن ينال «الحظوة» الملكية. كان مريد من مؤسسي «حركة 23 مارس» الثورية في ستينيات القرن الماضي. خلال أحداث 25 آذار (مارس) عام 1965 الدموية، اكتشف وهو في الـ 15 من عمره السياسة في الشارع. تشبّع بالفكر الماركسي وبحب الأدب في طفولته، لكنه اعتقل في 1974 وحكم عليه بالسجن 22 عاماً ليطلق سراحه بعد عشر سنوات. كان مريد وديعاً وطيّباً، لكنه لم يكن مهادناً. خلال الاعتقال، نسج علاقات قوية مع رفاقه، غير أنّه سرعان ما راجع حساباته بعد اكتشاف محدودية الإيديولوجيا أمام الواقع.
خلف القضبان، طوّر معرفته بالقصص المصورة، وأطلق عليه لقب «أبو القصة المصورة المغربية». في «إنهم يجوّعون الجرذان»، يحكي قصص المعتقل التي أثارت حماسة ماري لويز بلعربي، مؤسسة «دار طارق» التي أصدرت له كتابه الأوّل، وصارت لاحقاً تعنى بنشر أدب السجون الذي يحكي سنوات الرصاص.
عمل مريد في الصحافة بعد خروجه من السجن، مراكماً القصص المصورة، وبقي حتى أيّامه الأخيرة يدرِّس، ويكتب، وناصر«20 فبراير» حين انطلق حراك الشارع المغربي قبل عامين. يومها، آمن بأنّ «البلاد العربية لم تعد تريد الاستبداد»، وبأنّ كلمتي «الحرية والكرامة تلخّصان كل شيء».
Habib Benmalek
مع Abdeslam EL BAHI، Aziz Mouride، Abdellah EL HARIF، Abdallah El Harif وSion Assidon.
الراحل عبد العزيز مريد: أخرجت الشيطان الذي يسكن البلاد بكاملها(!!)
سعيد منتسب نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 13 - 04 - 2013
صباح الثلاثاء الماضي، وبعد مرض لم تنفع معه قوة المقاومة التي تميز بها في مواجهة الجلاد والمعتقل، رحل المبدع والمعتقل السياسي السابق عبد العزيز مريد. ويعتبر الراحل، الذي قضى في درب مولاي الشريف والسجن المركزي بالقنيطرة عشر سنوات (1974- 1984)بسبب أفكاره السياسية وانتمائه لمنظمة «23 مارس»، أحد مؤسسي جنس القصص المرسومة مغربيا.
وإذا كانت تجربة الرسم لديه قد انطلقت خلف القضبان، فإنها وصلت أوجها مع إصداره لقصته المصورة الأولى سنة 2001: « إنهم يجوعون الفئران تجويعا» (دار النشر طارق).
في هذا المؤلف الصادر باللغة الفرنسية وباللونين الأبيض والأسود، يسترجع مريد تجربة الاعتقال والتعذيب بكل أشكاله والمحاكمة غير العادلة التي اكتوى بنيرانها في مغرب سنوات الرصاص.
وبالإضافة إلى إبداعاته في مجال القصة المرسومة، مارس الراحل التشكيل والنقد، كما مارس العمل الصحفي.
في ما يلي نعيد نشر الحوار الذي أجريناه معه في صيف 2001.
} نهنئك على هذا الكتاب الجميل والرائع الذي يجسد محنة جيل كان يحلم بإشراقة شمس على وطنه، وخصوصاً جيل اليساريين الذين اعتقلوا وعذبوا وقتلوا في أقبية الظلام والظلم والعار، في ظل سلطات القمع التي كانت تنشر رعبها وقتامتها وكوابيسها في كل حلم، تحملوا ذلك من أجل أفكارهم وتوقهم إلى نظام سياسي قوامه الحرية والكرامة والديمقراطية..
نهنئك على هذا الكتاب الذي نعتبره دليلا على ذاكرة جماعية، نريد أن نتعرف معكم على الظروف المؤسسة لكتابة هذه الذاكرة؟ متى جاءت الفكرة؟ وما هي الصيرورة التي معها وأين أنجزتها؟
الكتاب يرجع تاريخه إلى 1980، بعد الإضراب عن الطعام الذي وصل الى 45 يوما، حين قمنا في السجن المركزي، نحن مجموعة مكونة من 139 معتقلا سياسيا وكان بيننا مناضلون من الاتحاد الاشتراكي بإضراب عن الطعام احتجاجا على ظروف الاعتقال.
بعد الإضراب، كنت في وضعية صحية خطيرة، وكان علاجي الأساسي هو الرسم والرياضة، هكذا قررت أن يكون العلاج، أن أدون عبر الرسم كل هذه البشاعة التي عبرت أجسادنا وعقولنا وزهرة أيامنا، قلت مع نفسي، لا يمكن أن نعيش كل هذه الفظاعات بدون أن يسجلها التاريخ. لقد لاحظت أن أجيالا من المعتقلين السياسيين الذين عانوا المحن، منذ الستينيات لم يسبق لها أن دونت تجربتها, نحن جميعا نعرف أن مناضلين وشهداء أفذاذ كلهم مروا من هناك، من هذا الظلام الذي كان يخنق المغرب، كلهم ضحوا في سبيل هذا الوطن، سواء في فترة الاستعمار أو أثناء مرحلة الاستقلال، لكنهم لم يتركوا للأجيال اللاحقة شيئاً، حيث أصبحنا نعيش أحداثاً بدون أن نؤرخها أو نودعها بين أيدي التاريخ كشهادة ,أصبحنا نقع خارج التاريخ، لأننا لا ندون ذاكرة المرحلة.
هكذا بدأت أكتب وأرسم قصة معاناتنا من أولها إلى آخرها، كيف اعتقلنا؟ ماذا جرى لنا في المعتقلات؟ أنواع التعذيب التي كابدنا في »غرف العمليات« الخاصة؟
وبطبيعة الحال، كانت حملات التفتيش في مرحلة الاعتقال مكثفة ويومية، فرغم نجاح الإضراب وتحقيقنا للقليل من الحرية والمكتسبات، كانت المداهمات يومية.. غير أنني كنت أرسم وأرسم في أوراق صغيرة، وأبعثها إلى الخارج عبر العائلة الأصدقاء الذين كانوا يزورونني, حتى تمكنت من الانتهاء من الكتاب.. وبالفعل، رحل الكتاب الى بلجيكا، هذا ما علمته وأنا رهن برودة الاعتقال، ومنذ ذلك الحين، انقطعت كل المعلومات المرتبطة بمصير الكتاب عني، لكنني عرفت فيما بعد أن كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق قرأ الكتاب، وعرفت أن الجميع في »أمنستي« الدولية قرأ الكتاب، ومجموعة من الحقوقيين في العالم تمكنوا من قراءة الكتاب وتأثروا به، وساهموا في الدفع لإطلاق سراحنا.
في ذلك الوقت، لم أكن أعرف كل ما صنعه هذا الكتاب.. على سبيل المثال، نشرت »ليبراسيون« الفرنسية رسومات منه على صدر صفحتها الأولى، كذلك »لوموند« وجرائد أخرى كانت تصلني عنها الأصداء فقط.
لم أر الكتاب إلا بعد خروجي، وجدت أن الرسوم لم تكن في المستوى، لأنني كنت مريضاً ويداي ترتجفان، لذلك قررت أن أعيد رسوم الكتاب كلها.
كانت لدي نسخة من الرسوم داخل السجن، لكنني أضعتها لما خرجت، ولم أحصل على نسخة جديدة إلا في سنة 1999 حين حملتها إلى صديقة أمريكية، لم تكن كتاباً، بل نسخة كاربونية من الكتاب، حينها قررت أن أعيده من جديد، بمنطق سردي جديد، وأن أعمل على تحيينه بما يتلاءم مع هذا المنطق.
مباشرة شرعت في العمل، أربعة أشهر قضيتها ملازما البيت، أرسم وأرسم، حتى اكتمل العمل الذي بين يديك الآن.
} اسمح لي أن أسألك: لماذا اخترت الرسوم وليس الكتابة؟
رغم أنني صحافي قضيت 15 سنة وأنا أكتب، فإنني لم أستطع لحد الآن أن أصوغ كلمات لوصف البشاعة، إنني أحيي جميع الأصدقاء والرفاق الذين استطاعوا أن يكتبوا ولو أنكم لاحظتم من خلال هذه الكتابات أن كل من عبد القادر الشاوي وصلاح الوديع وأبو يوسف، وعبد اللطيف لم يكتبوا التجربة بشكل مباشر..
} تقصد أنهم صبوا هذه التجربة في قالب روائي، يمتزج فيه الخيال بالتجربة والواقع بالأدب؟
نعم، كتبوا عن التجربة كموضوع أدبي غير مرتبط بالذات والمعاناة الشخصية، كانوا يلفون حول الموضوع، دون أن يترجموا حقيقته وهي تقوم بجلد أجسادهم وذاكرتهم..
} هل كنت تعتقد وأنت ترسم التجربة بكل هذه الفظاعة والبشاعة التي تطل من الرسومات أن الصورة المرئية أكثر تعبيراً من الكلمات؟ هل هناك قصدية معينة؟
لا أستطيع أن أكتب، هذا شيء فوق قدرتي، حاولت لكنني عجزت..
} لكننا نلاحظ، نحن قراء هذا الكتاب أنه مليء ليس بالحوار بين الشخصيات، بل بالتعاليق التي تمنح الموضوع قوة في الشكل والمعنى.
تماما، أولا، أنا رسام، ولدي إمكانية للتعبير بالصورة والرسومات، وهذا كما تعلمون عصر الصورة، والصورة القوية يمكنها أن تلخص مقالا بكامله، بل يمكنها أن تكون أكثر تعبيرية وأكثر نجاحاً في توصيل المعنى.. حين عجزت عن الكتابة لذات الرسم..
} إذن، المسألة ليست اختياراً مفكراً فيه..
لا، إنه العجز، نعم العجز.. أنا عاجز عن الكتابة، ويمكنني أن أقول إنني أعاني من حالة انحصار قوي يمنع كل الأشياء التي أخبئها في أعماقي في الخروج، لا يمكن لأية كلمة أن تترجم بدقة وصدق هذه الأشياء.. لذلك، صادفتني الصورة أو صادفتها، وجدت فيها الإبداع الفني الذي يمكنه أن يربط تجربتي بما يمكن أن نسميه التعبير.
هذا ما أردت أن أصل إليه من قبل: هل الصورة أكثر تعبيرية وفنية وصدق من الكلمة...
شخصيا، حين اطلعت على الكتاب وجدته أكثر تعبيرية عن كل الفظاعات التي تحدث في أقبية الاعتقال السرية من الكلمات.. فالعبارة في مثل تجربتكم أضيق من التجربة.. الواقع أكبر من الكملة والصورة في مثل هذه الحالة، تعبر عن امتداد التجربة في لحظة معينة وهو ما لا تستطيع الكلمات فعله نظرا لخطيتها وارتباطها بالوصف اللغوي الامتدادي في الزمن زمن الكتابة والقراءة معا.
الرسم تعبير ولغة له منطلقه ومعاييره الخاصة. وقد حاولت في رسوماتي أن أوفق بين الفكرة التي أروم إيصالها والتعبير الفني.
} اثارني في هذا الكتاب شيء أساسي جعلني ارجع إلى مرحلة الطفولة أو الشباب الأول حين كنت ومجموعة من الأصدقاء من جيلي المتمدرسين وغير المتمدرسين, نلتهم قصص وحكايات الرسوم المصورة من قبيل سلسلات »روديو« وليس »ألبمراكس« و»كابيت سوينغ« و»زامبلا» و»كيوي وبليك« و»اكيم« الخ.
هل كنت أيضا في طفولتك من هواة قراءة هذه السلسلات؟ وإذا كنت كذلك ما حجم التأثير الذي أحدثته فيك كرسام وكاتب؟
بطبيعة الحال هناك تأثير للعديد من الرسامين العالميين الذين كانوا يبدعون هذه السلسلات، أنا قارئ قديم للرسوم المصورة واعتبرها دائما شكلا من أشكال التعبير البطل وهذه مسألة ليست سهلة.
وإذا لاحظت فإن النصوص أو التعاليق المقترنة بالرسوم ذات شحنة تعبيرية وفنية مهمة ليس فيها أي ابتذال.
} حين شرعت في قراءة الكتاب لمست حضورا مستترا للجانب السير ذاتي.. هل هناك فعلا سيرة ذاتية تنكتب عبر صفحات الكتاب بشكل محتشم وغير واثق, كأنك لا تريد أن تعكس هذا الجانب الذاتي.
.. نعم، هناك حضور للجانب السير ذاتي ولكنه حضور غير مباشر، لأنني نسبته إلى شخص آخر, ثم أنني أميل إلى الحديث عن عملي كشهادة، وليس كسيرة ذاتية. الشخص الذي يكتب مذكراته في آخر الكتاب هو أنا، أنا الذي أصابني العمى، وذهبت إلى المستشفى وعانيت من مضاعفات الاضراب.. لكنني وجدت أنه من الأفضل أن أنسب كل هذه الوقائع والفظاعات إلى شخص آخر, هناك أشياء تخصني في هذا الكتاب، لكنني رفضت أن أقدم شهادة شخصية لأنني اعتبرت أنه ليس من المعقول أن أنسب إلى نفسي تجربة جماعية. ربما تكون قد لاحظت أن الأنوية (أنا.. أنا.. أنا) منعدمة هناك (نحن) ومجموعة من المشاهد لم تقع لي وحدي، بل تشمل تجربة جيل بكامله.
والقضية التي أريد أن ألح عليها هي أن هناك ثلاث مراحل في الكتاب: مرحلة التعذيب, ثم مرحلة المحاكمة, ثم مرحلة النضال من أجل تحسين الأوضاع في المعتقل.
مرحلة المكافحة اعتبرها جانبا مركزيا في الكتاب، لأننا كنا بالفعل بصدد بناء دولة الحق والقانون، فلا يمكن أن نصل إلى هذا المطمح بدون إصلاح القضاء. فمستوى القضاء عندما هزيل جدا وما صورته في الكتاب شهادة بسيطة عن هذا الابتذال والسقوط الذي يعيشه قضاؤنا.
} هل هذه الشهادة بمثابة تخلص من ثقل الذاكرة؟ هل شعرت، وأنت ترى كتابك يولد بين الناس في مغرب الان بنوع من الراحة والاطمئنان.
»شوف يا منتسب» تجربة الاعتقال التي مررنا بها كجيل ليست موضوعا للسخرية والمزاح عندي. لا أطيق أن يتحدث معي أي شخص عن هذه التجربة. وكأنه يتحدث عن شيء بسيط وعاد وقع ذات يوم و انتهى. أنا حين أنجزت هذا الكتاب أردت أن أتخلص من ثقل جسيم فوق ذاكرتي، وأن أساهم في تخليص ذاكرة جيلي من كل البشاعة التي عبرتها.
} هل أحسست فعلا وصدقا، أنك تخلصت من جرح داخلي؟
بطبيعة الحال. بطبيعة الحال..
} هل يمكن لعمل تعبيري وفني ان يساهم في تحقيق ما يمكن ان نسميه بالتطهير بالمعنى الارسطي، أي الاغتسال من التوتر.؟
هذا يقع في كل مكان، في الشيلي وكواتيمالا.. الخ.. الناس يتكلمون في التلفزيون والصحف، ليخرجوا ذلك السواد والحقد، ذلك الشيطان الذي يسكن حواسهم والذي سكن البلاد بكاملها.
لا يمكن أن نتقدم خطوة نحو الديمقراطية وحقوق الانسان ونحو احترام أنفسنا، ما لم نتعرض للتطهير.
} ألا تعتقد معي أن ذاكرة الاعتقال السياسي هي ذاكرة جسد أساسا ومن الصعب على أي عمل إبداعي أو تعبير فني بشكل عام أن يمحو ذاكرة القمع والارهاب بسهولة. بل إنه يساهم فقط في تلطيفها و التخفيف من حدتها.
ذاكرتنا لايمكنها أن تمحي. لكن من الضروري أن نضع هذه الذاكرة أمامنا بشجاعة. نحن لا نخطو نحو النسيان، وليست هذه رغبتنا. مهمتنا ان نؤرخ هذه الذاكرة لأنها جزء من تاريخنا. من منا عرف شيئا عن المرحلة الاستعمارية؟ شخصيا أؤاخذ المغاربة لأنهم لم يتحدثوا عن الاستعمار الذي تحول بفعل الصمت الى مجموعة من النكت والمستملحات، لماذا وقع الاستعمار؟ ماهي التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي سهلت دخول الاستعمار؟ هذا مهم.
} سؤال آخر أريد أن أطرحه عليك، هل تعتقد ان ذاكرة الاعتقال السياسي لن يكتبها الا المعتقلون السياسيون. ام أنها لن تنكتب بصورة دقيقة وكاملة إلا إذا ساهم فيها الجلادون وعائلات الضحايا؟
أتمنى أن يساهم في كتابة هذه الذاكرة علماء الاجتماع، وعلماء النفس والمؤرخون والاطباء ورجالات مختلف العلوم الانسانية بشكل عام وبطبيعة الحال، لا يمكن لهؤلاء ان يساهموا في كتابتها اذا لم تكن بحوزتهم معطيات كافية.
أما إذا رغب الجلادون في المساهمة، فأنا سأكون سعيدا جدا، لأنهم بدون شك، سيغنون التجربة من زاوية أخرى وبنظرة أخرى مغايرة تماما.
مساهمة هؤلاء ستعبر عن تلك العقلية التي نكلت بنا، ستعبر أيضا عن منطق الصراع.سيفهم الجميع أن القمع لا يبني مجتمعا، بل يهدمه. أتمنى أن يكون هناك حوار حول الذاكرة، بدون حقد أو كراهية أو رغبة في الانتقام.
رحيل عبدالعزيز مريد.. فنان قلم الرصاص الذي رسم «سنوات الرصاص»
اشتغل في أخريات حياته على تحويل «الخبز الحافي» لمحمد شكري إلى رسومات «بوند ديسيني»
حكيم عنكر نشر في المساء يوم 12 - 04 - 2013
ودع الدنيا الفانية، أول أمس، الفنان والكريكاتيرست المغربي عبدالعزيز مريد بعد مرض ألم به، وشيعه قلة من أصدقائه ومن رفاقه في درب الكفاح المرير.
عبدالعزيز قصة إنسانية ورمز من رموز الفعل النضالي في زمن سنوات الرصاص، ابن الدار البيضاء، ورفيق حبشي والوديعين صلاح وعزيز ورشيد فكاك.
سيرسم كتابا عن تلك التجربة القاسية في درب مولاي الشريف وفي سجن القنيطرة، أسماها «إنهم يجوعون الفئران». إنه نموذج المناضل الحقيقي، والفنان العصامي وابن عين الشق الذي ارتبط بهموم الشعب منذ البداية.
يكتب مريد بقلم الرصاص «إذا الشعب يوما أراد الحياة» بخطه المميز، ويعلق متهكما «أكتب عن سنوات الرصاص بقلم الرصاص».
هو بالفعل عميد الصحافة والكاريكاتير والصور الثابتة، أعاد ترتيب حياته وحياة زملائه المعتقلين كقطع، وتصفيفها وتقديمها من جديد.
مريد ليس رجلا عاديا ولا مواطنا مغربيا، كان يمر جنب الحائط. لقد جسد أحد أقوى لحظات المقاومة، وهو لم يندم يوما على تلك التجربة التي خاضها من أجل وطن أجمل.
قيمة الحرية بالنسبة إليه أهم شيء والإحساس بها تتحقق في المجتمع المغربي يثلج الصدر في نظره، ولكنه مع ذلك لا يعتبر أن الأمور حسمت أو انتهت، بل «مازال ما يدار في هاذ لبلاد»، وبالتالي يعتبر أن مسار تحقيق الديمقراطية طويل، كما يعترف بأن السجن لم يخلق لديه أي إحساس بالكراهية اتجاه جلاديه، ولا رغبة له في الانتقام ممن وضعوه في السجن وهو في زهرة شبابه.
في السجن تمكن من تطوير موهبته، ومن سبر أغوار هذه التجربة القاسية. يحكي عزيز الوديع عنه قصة مثيرة، لما كانوا جميعا معتقلين في درب مولاي الشريف، والواقعة تتلخص في أن أحد «الحجاج» ضبطه يوما وهو يصنع ب»لبابة» الخبز تمثالا صغيرا للينين. طبعا، وجدها «الحاج» فرصة سانحة لمعاودة حفلة الضرب على الجسد النحيل لمريد، فسأله عمن يكون هذا التمثال؟ فتفتق ذهنه عن جواب سريع: توحشت با ورسمتو، وبغيت ندوي معاه». طبعا ستنكشف الحيلة بعد ذلك، عندما حضر رئيس الحراس وعاين المنحوتة «الخبزية» لمريد، فرد على «الحاج»: هاذا راه رسم لينين، فكانت حفلة التعذيب من جديد.
يحكي مريد أنه أمضى عاما نصفا وهم يضعون عصابة على عينيه، منذ يوم اعتقاله، وقال إنه عندما رأى الشمس لأول وهلة، شعر بأنه في الجنة تماما.
لا يعدم مريد عبدالعزيز حس الفكاهة أو السخرية وهو يتحدث عن تجربة السجن الطويلة. يقول معلقا على الأحكام التي صدرت في حق المجموعة التي ينتمي إليها: «أخذنا 25 قرنا من السجن كمجموعة على 139 معتقلا سياسيا».
مسار السجن هو مسار الإضرابات عن الطعام من أجل تحسين الأوضاع، إضرابات متقطعة من 15 يوما و10 أيام، ثم إضرابات الحسم من 45 يوما، وصل فيها وزنه إلى 35 كيلوغراما، أصيب باجتفاف في الدماغ، كان سببا في مرضه العضال. يقول إنه كان من فرط الإضراب عن الطعام يمشي في ساحة السجن مثل السكران، في شبه غيبوبة تامة.
عاد إلى ذاكرته، ورسم تلك اليوميات، يوميات السجن، وهكذا استطاع أن يهرب كتابه الأول والمعنون ب»في أحشاء بلادي»، من السجن وطبع الكتاب في بلجيكا، وأصبح دليلا للحركة الحقوقية العالمية على ما يقع في السجون المغربية من تعذيب وحشي.
عرف الكتاب على نطاق واسع لدى المنظمات الحقوقية العالمية، وكان بداية الكشف عن ملف الاعتقال السياسي في البلاد.
يؤكد مريد أنه بفضل تلك الرسومات ووصولها إلى الرأي العام الدولي، بدأ ملف الاعتقال السياسي يجد طريقه إلى الصحافة العالمية وإلى الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وبدأت بوادر فرجة من الضوء تلوح في الأفق، أصبح الأمل في الخروج من هذا الوضع يراود النفوس، وبدا أن الانفراج قريب.
طبعا، سيجد ملف الاعتقال السياسي طريقه إلى الحل بعد سنوات من ذلك، وبعد أن تحسنت نسبيا وضعية المعتقلين السياسيين داخل السجون المغربية، واستطاع مريد أن يرسم بحرية في مرسم خاص في المعتقل.
يرى مريد أن آخرين من رفاقه في التجربة، أرخوا لها رواية أو شعرا أو محكيات أو كتابة سياسية وفكرية، ولكن مادامت لم تكن توجد صور لتلك الفترة، وكان يستحيل ذلك، فقد استطاع أن ينقل حياة السجن وظروف التعذيب إلى العالم الخارجي عن طريق الصور.
قبيل وفاته، كان مريد يعمل على تحويل رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري إلى سلسلة رسوم مصورة. لقد كان رهانه تحويل هذه الرواية التي طارت شهرتها في الآفاق إلى كتاب «بوند ديسيني»، وربما -كما يقول معارفه- يكون قد انتهى منه، لتكون أول تجربة مغربية في تحويل عمل أدبي إلى رواية صور مسلسلة.
وإذا كان من خلاصة، فهو ما يحكيه مريد نفسه بنفس ساخر، هو زاد الفنان الحقيقي، يقول إنه لما خرج من السجن، كان الشيء الوحيد الذي يخيفه هو عبور «الشانطي»، ففي السجن يحافظ السجين على نفس السلوك، وبما أنه لا توجد طرق داخل السجون، فإن أكبر تحد للمعتقل عندما يفرج عنه هو كيفية عبور الطريق من الطوار إلى الطوار.
يرى أن السجين لا يكبر في السجن. يقول «تركتنا الحياة عند نقطة، وأردنا أن نجدها لما خرجنا من السجن عند نفس النقطة». لكن العالم كان قد تغير!
حداد الثقافة : المغرب فقد ريشةً ويراعاً
محمد الخضيري
الرباط | شاءت الأقدار أن يرحل عن المغرب اسمان شقّا الطريق أمام حداثة جنسين تعبيريين مختلفين. الشاعر محمد الصباغ (1930)، ورسام القصص المصورة عبد العزيز مريد (الصورة). ترك رحيل الصباغ صدى عربياًَ، فيما كان مريد أشهر في فرنسا وأوروبا بسبب رسمه قصصاً مصورة تعكس حياة المعتقلين السياسيين إبان ما يسمى «سنوات الرصاص» في المغرب حيث اعتُقل لسنوات.
رحل الصباغ في أحد مستشفيات الرباط بعد معاناة مع مرض عضال. ولد الراحل في مدينة تطوان الملقبة بعروس الشمال. في شبابه، اطلع على الأدب المهجري الذي طبع تجربته الشعرية الأولى، قبل أن يسهم في التأسيس للقصيدة المغربية الحديثة. درس الصباغ علم المكتبات في إسبانيا، وبعد عودته إلى المغرب راكم العديد من التجارب في المجال. وكان الصباغ من المبادرين إلى تأسيس «اتحاد كتاب المغرب»، وعمل مستشاراً لوزير الثقافة ومديراً لأقسام عدة في مؤسسات وزارية مختلفة. العمل لم يشغله عن كتابة الشعر والتأليف، فانخرط في الحياة الثقافية وأصدر دواوين عدة منذ 1953، كـ«العبير الملتهب» (1953)، و«أنا والقمر» (1956)، و«فوارة الظمأ» (1961)، و«شجرة محار» (1977). وألف أيضاً مجموعة قصصية بعنوان «نقطة نظام» (1970) حاز عنها «جائزة المغرب للكتاب».
ترجم الراحل عن الأدب الإسباني، وكان ممن شكلوا جسر عبور لأدب الجار الإيبري إلى المغرب، ما قاده إلى الحصول على وسام الاستحقاق الفكري الإسباني عام 1986. الملك محمد السادس الذي تكفّل بمصاريف علاجه حين استبد به المرض، أرسل تعزية لعائلة الشاعر الراحل. وصفه فيها بـ«أحد أبرز رجالات الأدب الذين أسهموا في إثراء المكتبة الوطنية بعطاءاتهم المتميزة والمتنوعة». أما المعتقل السياسي عبد عزيز مريد، فقد رحل بصمت من دون أن ينال «الحظوة» الملكية. كان مريد من مؤسسي «حركة 23 مارس» الثورية في ستينيات القرن الماضي. خلال أحداث 25 آذار (مارس) عام 1965 الدموية، اكتشف وهو في الـ 15 من عمره السياسة في الشارع. تشبّع بالفكر الماركسي وبحب الأدب في طفولته، لكنه اعتقل في 1974 وحكم عليه بالسجن 22 عاماً ليطلق سراحه بعد عشر سنوات. كان مريد وديعاً وطيّباً، لكنه لم يكن مهادناً. خلال الاعتقال، نسج علاقات قوية مع رفاقه، غير أنّه سرعان ما راجع حساباته بعد اكتشاف محدودية الإيديولوجيا أمام الواقع.
خلف القضبان، طوّر معرفته بالقصص المصورة، وأطلق عليه لقب «أبو القصة المصورة المغربية». في «إنهم يجوّعون الجرذان»، يحكي قصص المعتقل التي أثارت حماسة ماري لويز بلعربي، مؤسسة «دار طارق» التي أصدرت له كتابه الأوّل، وصارت لاحقاً تعنى بنشر أدب السجون الذي يحكي سنوات الرصاص.
عمل مريد في الصحافة بعد خروجه من السجن، مراكماً القصص المصورة، وبقي حتى أيّامه الأخيرة يدرِّس، ويكتب، وناصر«20 فبراير» حين انطلق حراك الشارع المغربي قبل عامين. يومها، آمن بأنّ «البلاد العربية لم تعد تريد الاستبداد»، وبأنّ كلمتي «الحرية والكرامة تلخّصان كل شيء».