من طرف رياضي الأحد أبريل 10, 2011 1:45 pm
بصدد النقاش السياسي الدائر بالمغرب حول تعديل الدستور :
"إمارة المؤمنين" تتناقض مع الديمقراطية
والفصل بين الدين والدولة ضروري
عبد الرحمان النوضة[1]
بعد خطاب الملك محمد السادس في 9 مارس 2011، وفي إطار جلسات الاستماع الجارية بين اللجنة المكلفة بإعداد مشروع دستور للمغرب من جهة، ومن جهة أخرى القوى السياسية، طرحت بعض الأحزاب، مثل حزب الاستقلال، وحزب الحركة الشعبية، وحزب العدالة والتنمية، أنها تريد الحفاظ على "إمارة المؤمنين".
ليست هذه، لا المرة الأولى، ولا الأخيرة، التي تريد فيها بعض الأحزاب، مثل حزب الاستقلال، وحزب العدالة والتنمية، أن تظهر كأحزاب، غيورة على الملك، و"ملكية أكثر من الملك". ولماذا ذلك ؟ لأن هذه الأحزاب تتملق على الملك، ولأنها مهووسة بضرورة تغليب الدين على السياسة، ولو في المظاهر. وكل حزب, أو كل شعب، يقبل إخضاع الدولة أو السياسة للدين، فإنه لن يستطيع أن يكون ديمقراطيا.
ويمكن أن نقولها بكل وضوح، وبكل صراحة : ما دامت الشعوب العربية تُخْضِع الدولة والسياسة والاقتصاد والثقافة للدين، فإن هذه الشعوب ستبقى هي الأكثر تخلفا عبر العالم. ويُمكن لكل ملاحظ موضوعي أن يرى أن الشعوب الأكثر تقدما عبر العالم، هي بالضبط تلك التي قطعت أكثر الأشواط في مجال فصل الدين عن الدولة وعن السياسة. لأن الدولة السليمة، أو الحَكامَة الجيّدة، هي تلك التي تُخْضِع تدبير المجتمع للعقل، وللتشاور، وللديمقراطية. بينما إخضاع الدولة للدين، أو إخضاع السياسة للدين، يُبخس العقل، ويُلغي الشورى، ويدوس الديمقراطية، ويسهل الانحراف نحو الاستبداد السياسي (وكذلك نحو الاستبداد الاقتصادي، والاستبداد الإعلامي، والاستبداد الثقافي). والسبيل الوحيد لدخول عهد الديمقراطية، يمر بالضرورة عبر فصل الدين عن السياسة. وكل بلد يختار إخضاع الدولة للدين، أو كل شعب يقبل تغليب الدين على العقل، أو غليب الدين على السياسة، يستحيل عليه أن يصل إلى عهد الديمقراطية والحداثة.
وكل الأحزاب التي تنادي بالحفاظ على "إمارة المؤمنين"، أو على الفصل 19 من الدستور القديم المنبوذ، تعوق انتقال الشعب المغربي من الاستبداد إلى الديمقراطية.
يمكن لِلْمَلِك أن يكون مَلِكا، دون الحاجة إلى لقب "أمير المؤمنين". ويمكن لِلَقَب ملك أن ينتج عن توافق تاريخي بين الشعب والملك، وأن يكون مضمون هذا التوافق هو "بقاء ملكية برلمانية، مقابل تحقيق الديمقراطية". وإلاّ أصبحت "الجمهورية البرلمانية" هي الحل الوحيد المقبول. ولا نحتاج في كل ما سبق ذكره إلى فرضية الدين، ولا إلى استعمال "إمارة المؤمنين".
يدعي البعض أن "إمارة المؤمنين" ضرورية. ونقول لهم : لماذا "إمارة المؤمنين" ضرورية ؟ ما هي حُجَجُكم ؟ لا يوجد ولو مبرر واحد معقول أو مقبول يبرر مؤسسة "إمارة المؤمنين". وحتى القرآن لا يدعو إلى إقامة "إمارة المؤمنين". إن "إمارة المؤمنين" هي مجرد استغلال للدين في السياسة. هل كَوْنُنا مؤمنين يُجبرنا بالضرورة على أن نكون تحت "إمارة" ملك مستبد مثل الحسن الثاني، وذلك بمبرر "إمارة المؤمنين" ؟
وهل الدين الإسلامي يُوجِب حقا أن يُوجَد "أمير" يحكم المؤمنين، أو يسيطر على المسلمين ؟ وهل الإسلام يَفْرِض، أو يُبَرّر، ملكية مستبدة، مثل الملكية التي ظلت تحكمنا منذ عدة قرون، ولا زالت تبقينا في التّخلُّف ؟ على عكس تلك الإدّعاءات، ألا توجد في القرآن تَقيِيمَات سلبية تجاه النظام الملكي (مثل الآية القائلة : "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أَعِزّة أهلها أَذِلّة، وكذلك يفعلون" (سورة النمل، سورة 27، آية 34) ؟ وحتى إذا ما وجد بعض الفقهاء، من بين خدام السلطان، تأويلا لآية ما، أو لحديث ما، لتبرير "إمارة المؤمنين"، فإن ذلك سيكون في مجال العبادة, وليس في مجال نظام الحكم، ولا في ميدان القضاء، أو الاقتصاد، أو العلوم، أو الثقافة. وإذا كان الدين يبرر حقيقة "إمارة المؤمنين"، ويبرر ملكية مستبدة، فإننا - في هذه الحالة - نُفَضِّل الديمقراطية على الدين.
إن "إمارة المؤمنين" لم تكن دائما موجودة عبر التاريخ. بل "إمارة المؤمنين" هي مجرد بِدْعَة، أو حِيلة سياسية، تُمَكِّن الحاكم وأتباعه من استغلال قداسة الدين، بهدف إضفاء الشرعية على نظام سياسي مستبد. وفي ما يخص المغرب، وحسب بعض الملاحظين، فإن علال الفاسي والخطيب هما اللذان اقترحا إقامة "إمارة المؤمنين" على الحسن الثاني. فوجد فيها الحسن الثاني حيلة سياسة قوية، وسجلها في دستوره الممنوح، وأنجح هذا الدستور باستفتاء مُزَوّر. وكان هدف الحسن الثاني من "إمارة المؤمنين" هو تبرير استبداده، وتعليل سيطرته على جميع السُّلَط. فَاسْتَغَلّ الحسن الثاني حيلة "إمارة المؤمنين" لفرض "قداسته"، ولتبرير قمع كل فرد أو جماعة تنتقد نظامه الدكتاتوري. فظل يستغل "إمارة المؤمنين" لتبرير نزواته الاستبدادية، دون أن يلتزم بأي مبدأ من مباديء الإسلام. فَدُعَات "إمارة المؤمنين" لا يأخذون من الإسلام إلا ما يخدم مصالحهم الخاصة.
إن كل اللذين يريدون استعمال مؤسسة "إمارة المؤمنين"، يفعلون ذلك لسبب واحد فقط، وهو أنهم يريدون أن يستمدوا شرعية الحاكم من الدين، وليس من الشعب، أو من الديمقراطية. فيحرمون الشعب من حقه في اختيار الحُكّام واختيار نظام الحُكْم.
وكُلّما وُجِدت مؤسسة "إمارة المؤمنين" في مجتمع ما، فإن ذلك يجعل الديمقراطية مستحيلة التحقيق في ذلك المجتمع. كما يصبح ممنوعا على الشعب أن يطالب بالديمقراطية، لأن مطالبة الشعب بالديمقراطية تظهر في هذه الحالة كأنها طعن في الدين. وكُلّما رفض شخص أو جماعة حكم "أمير المؤمنين", يصبح ذلك الشخص أو الجماعة متهما بأنه يرفض الدين نفسه. فيُقَدّم ذلك الصراع السياسي على أنه صراع ديني. والهدف الخفي هو تأليب الجماهير الجاهلة ضد المعارضين التقدميين. بينما في الحقيقة الدين بريء من إِدِّعَاءات الحاكم، وبريء من مؤسسة "إمارة المؤمنين"، وبريء من الفقهاء المدافعين عن "إمارة المؤمنين"، وبريء من كل المتصارعين السياسيين.
ويمكن أن نتساءل : هل يمكن، أو هل يعقل، أن يمنح الدين (أو الإله) الشرعية لحاكم ما, أو لنظام سياسي ما ؟ من يَدّعي أنه بالإمكان أن يمنح الدين (أو الإله) شرعية لحاكم سياسي ما، إنما هو كذّاب ودَجّال. مثل هذه الإدّعاءات مرفوضة، بل هي مجرد خرافات تستعمل للتحايل على عقول الجماهير الجاهلة، وذلك بهدف تبرير إخضاعها لنظام سياسي مستبد. بل على عكس تلك الإدعاءات الكاذبة، لا يوجد أي سبيل لتشييد الديمقراطية إلا عبر الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين الدين والسياسة, وبين الدين والثقافة.
هل الخضوع ل "أمير المؤمين" وراثي، ومسيطر على جميع السلط، وغير قابل لا للمساءلة ولا للمحاسبة، هل هذا يتماشى مع الديمقراطية ؟ إن كل من يقبل بأن يكون الملك "أميرا للمؤمنين"، يصبح مُكَبّلا في كثير من المجالات، وخاصة منها المجال السياسي. حيث يصبح ممنوعا عليه نقد "أمير المؤمنين"، أو نقاش صلاحياته، أو تدبيره للحكم. لأنه عند إندلاع كل أزمة سياسية حادة، تُؤَوّل "إمارة المؤمنين" على أن الملك مُقَدّس، وأنه خليفة الله في الأرض، أي أنه فوق البشر، وأن شرعيته مستمدة من الله، وأن آراءه هي الحقيقة المطلقة، وأن ممارسته هي الفضيلة المُثلى، وبالتالي لا يحق لأي مواطن، ولا لأية مؤسسة، ولا لأية جماعة، ولو كانت هي الأغلبية المطلقة من الشعب، أن تحاول مناقشة الملك، أو أن تخالفه، أو أن تنتقده، أو أن تحاسبه، أو أن تعبّر عن الرغبة في تغيير نوعية النظام السياسي القائم. فتصبح "إمارة المؤمنين" هي المبرر الأقوى للإستبداد السياسي والاقتصادي والإعلامي والثقافي. بينما في الأنظمة الديمقراطية (مثل الملكية الإنجليزية، أو الملكية البلجيكية، أو الملكية الإسبانية، أو الملكية الدانمركية، أو الملكية اليابانية، الى آخره)، لم يَعُد الملك مُنَزّها من النقد، ومن المساءلة، ومن المحاسبة، إلا بعدما تَوَقّف نهائيا عن التدخل في الدولة، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الإعلام، وفي الثقافة.
والبعض يطرح أنه "يجب أن تكون الدولة إسلامية"، أو أنه "يجب أن يكون دين الدولة هو الاسلام". وهذا الطرح هو مجرد نَزْوَة إيديولوجية فارغة. فلم توجد، ولن توجد أبدا، ولو دولة واحدة عبر العالم، يمكن أن يجمع الخبراء على أنها حقيقة "دولة إسلامية"، أو "دولة مسيحية"، أو "دولة يهودية"، الى آخره. فهل حقيقة الدولة إسلامية في السعودية ؟ وهل الدولة مسيحية في إيطاليا، أوكنفوشيوسية في اليابان، أو هندوسية في الهند، أو يهودية في اسرائيل ؟ لا، هذا مجرد إدّعاء إديولوجي فارغ. وحتى دولة الفاتيكان في روما لم تكن أبدا حقيقةً مسيحية. والجرائم التي ارتكبتها مثلا دولة الفاتيكان، على امتداد القرون، الى جانب أنظمة سياسية إقطاعية، ثم استعمارية، ثم فاشية، الى آخره، تُثبِت أن المسيح والمسيحية بريئان كل البراءة من دولة الفاتيكان.
وفي الحقيقة، فإن الدولة ليس لها دين، ولا يمكن أن يكون لها دين. وعلى عكس بعض الإدعاءات، لا يمكن للدولة أن تحمل دينا (سواء تعلق الأمر بالإسلام أم بالمسيحية أم باليهودية أم بغيرها)، ولا يمكن للدولة أن تمارس هذا الدين، ولا أن تَتقيّد بأي مبدأ من مبادئه. فالدولة هي بَشَر، ومؤسسات، وأجهزة، وآليات، وموازين قوى، وإجراءات، وقوانين، وصراعات، وعلاقات، وبرمجة، وتدابير، وغش، ونفاق، وحيّل، وخيانات، الى آخره. ولا مكان في مقومات الدولة لا للإيمان، ولا للعبادة، ولا للروحانيات، ولا للأخلاق المجردة. وحتى إذا تَخَلّلت تلك الدولة طقوس دينية، فإن تلك الطقوس إنما تكون مجرد دِيكُور مُخادع. ومن يدّعي عكس ذلك، إنما يغالط أو ينافق. فجميع الدول الموجودة عبر العالم تتشابه في إيجابياتها وفي سلبياتها، وذلك بدرجات متفاوتة، سواء كان سكان تلك البلدان مسلمين، أو مسيحيين، أو يهود، أو بوديين، أو هندوسيين، أو بدون دين، إلى آخره.
البعض يَدّعُون أن المغرب "إستثناء". وهذه مجرد حيلة سياسية، ويُراد منها إيهام الجماهير أن مباديء الديمقراطية التي تَنْطَبِق على مجمل بلدان العالم، لا يقبل أن تَنْطَبِق على المغرب. وهذا إدعاء خاطيء. لأن القوانين الموضوعية التي تحكم سائر بلدان العالم تَنْطَبِق كذلك وبالضرورة على المغرب. ولا يُسْتَثنَى أي بلد في العالم من ضرورة الخضوع لهذه القوانين الموضوعية. والظواهر السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية التي توجد في سائر بلدان العالم، توجد كذلك في المغرب، ولو بدرجات مختلفة.
وهناك من يدعي أن كل المواطنين مُلْزَمُون باحترام "ثوابت" المغرب، وممنوع عليهم نقاشها، أو المطالبة بتغييرها. وهذه مجرد حيلة سياسية أخرى. إن كل من يتكلم عن "ثوابت"، أو عن "مقدسات"، أو عن "خطوط حمراء"، إنما يقصد أن هناك إجراءات أو مؤسسات أو قوانين سياسية لا يسمح للشعب بأن يحاول مراجعتها أو نقدها أو تغييرها. وهذا هو الاستبداد بعينه. بينما في الحقيقة، السلطة تنبع من الشعب وحده، ومن حق الشعب أن يُغَيّر كل ما يَمَسّ حياته السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإعلامية أو الدينية أو الثقافية. بل القانون العام الذي يحكم الكون كله، هو أن كل شيء، ومهما كان، يَتطَوّر ويتغَيّر باستمرار، وذلك حسب الظروف التاريخية، وحسب موازين القوى بين الأطراف المتنافسة. بل حتى الدين، وعلاقة الدين بالدولة، يتغيران عبر التاريخ. والمحافظون، المُستفيدون من امتيازات مفرطة في الأوضاع القائمة، هم الذين يريدون إقامة "ثوابت" أو "مقدسات"، أو "خطوط حمراء"، وذلك بهدف منع الشعب من الاعتراض على استمرار تلك الامتيازات الجائرة أو إلغائها.
والبعض يدعي أيضا أنه يوجد في المغرب "إجماع وطني"، تارة حول الملكية، وتارة حول "المسلسل الديمقراطي"، وتارة حول الصحراء، وتارة حول "إمارة المؤمنين"، الى آخره . وهذه خرافة أيضا. بل هي مجرد حيلة سياسية يُرَاد منها تخويف أو ترهيب الجماهير التي لها مواقف مخالفة لمواقف الحكم القائم، وذلك بهدف إسكات المعارضين، وبهدف منعهم من التعبير الحر عن قناعاتهم. فلا يتكلم عن وجود "إجماع سياسي" في بلد ما سوى الحُكّام المستبدون وأتباعهم الذين لا يعترفون لمعارضيهم بمشروعية الدفاع عن اختياراتهم المخالفة. بل الحقيقة العامة، هي أنه في كل جماعة، وفي كل مجتمع محدد، توجد بالضرورة أفكار متفاوتة، ومواقف مختلفة، واختيارات متناقضة, سواء في ميدان السياسة، أم الاقتصاد، أم الدين، أم الثقافة، إلى آخره. والحل الوحيد، المعقول، للفصل في ما بين هذه الخلافات، وللتَّعايُش، هو الاحتكام للشعب، والاحتكام لمباديء الديمقراطية، كما هي متعارف عليها عالميا.
إننا نحترم كل دين، ونحترم كل المتدينين، ونحترم غير المتدينين، أينما كانوا. لكننا لن نقبل أبدا بأن يفرض علينا أي كان إجراءات سياسية استبدادية، أو غير عادلة، وذلك بدعوى أنها "مقدسة"، أو "نابعة من الدين"، أو بحجة أنها ناتجة عن "إجماع وطني"، أو عن "تقاليد عريقة"، أو عن "خصوصية استثنائية"، الى غير ذلك من الحيل السياسية السخيفة.
وخلاصتنا هي أن "إمارة المؤمنين" تتناقض مع الإسلام، وتتناقض مع الديمقراطية؛ وأن الفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والسياسة، هو من صلب مباديء الديمقراطية؛ وبدون هذا الفصل تنتفي الديمقراطية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مهندس، كاتب، معتقل سياسي سابق، محكوم بالسجن المؤبد، قضى 18 سنة في السجن تحت حكم الملك الحسن الثاني.