أجرت اليسار الديمقراطي مع الرفيق عبد الغني بوستة السرايري حوارا مفصلا خص المستجدات على الساحة الوطنية والقضايا الملحة المطروحة على القوى الديمقراطية بالبلاد ، وكذا مسألة التعاون بين مكونات القوى وبين المناضلين بشكل عام والرفيق عبد الغني بوستة مناضل معروف داخل القوى التقدمية المغربية نظرا لعطاءاته ومواقفه الثابتة، حيث عرف كمناضل في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وأحد مؤسسي حركة الإختيار الثوري وكعضو في اللجنة المركزية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ، كما أنه عاش المنفى السياسي لمدة 21 سنة .
اليسار الديمقراطي : لندخل مباشرة في صلب الموضوع : هل لكم أن تعطونا تصوركم للوضعية العامة التي تمر بها البلاد راهنا ؟
عبد الغني بوستة: لا أتردد في القول بأن الوضعية العتمة التي تمر بها بلادنا ، وضعية خطيرة تنطوي على أخطار واضحة للعيان وأخرى متسترة أو كامنة والحقيقة أن الأزمة في بلادنا ليست بالشئ الجديد ، لكن جملة التطورات و الإجراءات الرسمية الأخيرة في المستويات الاقتصادية والاجتماعية شكلت في حصيلتها الكمية والنوعية منعطفا أساسيا في تاريخ بلادنا، سبق أن شبهته في إحدى المقالات بعملية "اكس لي بان" جديد وهذا التشبيه للإثارة فقط، وله حدود بطبيعة الحال نظرا لتباين الظروف التاريخية ، لكن الأمر يتعلق في كلتي الحالتين بعملية إجهاض وردة. ذلك أن عملية "ايكس لي بان" لسنة 1956 أجهضت الكفاح الوطني وفوتت على شعبنا سيادته واستقلاله الحقيقي سياسياً واقتصادياً و" أدخلت الاستعمار من النافذة بعد أن خرج من الباب " كما قال الشهيد المهدي بن بركة ، بينما نشاهد اليوم في ظل هيمنة النظام الرأسمالي العالمي عملية تفكيك هياكل اقتصادنا الوطني و"إعادة استعماره " بطرق جديدة متطورة من جهة ، ومن جهة أخرى تفويت السيادة الشعبية وإجهاض الديمقراطية المبنية على الأسس المتعارف عليها إنسانياً ، وتثبيت طرق الحكم المخزنية في أواخر القرن العشرين .
صحيح أن هيمنة الاستعمار الجديد على اقتصادنا الوطني سارية منذ عملية ايكس لي بان الأولى ، واتضحت أكثر من 10 سنوات من التقويم الهيكلي تحت تعليمات وأوامر صندوق النقد الدولي والمؤسسات الرأسمالية العالمية ، لكن الإجراءات الرسمية المتتالية مؤخراً جاءت تتويجاً لهذه الهيمنة ، وزادت في تمتين روابط التبعية للأجنبي ، وقد ترهن مقدرات بلادنا للعقود المقبلة أذكر من بينها إجراءات الخوصصة التي فوتت الرصيد الوطني الاقتصادي للخواص،واتفاقية المنظمة العالمية للتجارة (الكاط سابقاً) وأساساً اتفاقية الشراكة مع المجموعة الأوروبية التي ستمزق النسيج الاقتصادي الوطني بعد إقرار المنافسة الحرة وسقوط كل الحواجز الجمركية إذاك لن يصمد نسيج الشركات والمقاولات الصغيرة والمتوسطة أمام منافسة الشركات الأوروبية (وهي منافسة تقدر بالواحد ضد المائتين ) وسيكون مصيرها الاختفاء من الساحة الاقتصادية التي لن يبقى فيها سوى التجمعات الاقتصادية الكبرى من صنف أونا وأخواتها والتي هي أصلاً مشتركة مع الأجنبي .
أما على الصعيد السياسي فلقد جاءت الإجراءات الرسمية عبارة عن تكملة جدلية للإجراءات الاقتصادية ذلك أن إعادة استعمار الاقتصاد لا يمس بالسيادة الشعبية والديمقراطية والمواطنة .. وفي الوقت الذي عرف فيه النضال الديمقراطي مداً ايجابياً وتطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة ، سواء على المستوى الحقوقي أو السياسي أو بالنسبة للمخاض الذي يعرفه المجتمع المدني عموماً ، وأصبح الرأي العام الداخلي والخارجي مترقباً أو مشدوداً لما ستعرفه البلاد من تطورات ديمقراطية، جاءت الإجراءات الرسمية لإجهاض هذا المد، وإجهاض فرصة إرساء أسس الديمقراطية ودولة الحق والقانون. تجلى هذا في شكل جملة متكاملة من الإجراءات والتقنيات : "الحوار الاجتماعي" للجم مطالب الطبقة العاملة مسبقا وحبس الملف الاجتماعي في إطار تراض هزيل مغشوش ، تقنين الدستور نهائيا بشكل يفوت السيادة الشعبية ويضرب أسس الديمقراطية المتعارف عليها ، ترتيب الانتخابات المقبلة وإحالة إصدار قوانين مصيرية (الجهورية) على البرلمان الحالي المزور بشهادة الجميع، وبصفة عامة تخلي الدولة عن واجباتها الاجتماعية والتخفيف من أعبائها مقابل تقوية الجهاز التنفيذي والأمني وتثبت هيمنة المركزية على كافة مرافق الحياة ..
اليسار الديمقراطي: في هذا السياق ما رأيكم في الاستفتاء الذي حصل في 13 سبتمبر الماضي؟
عبد الغني بوستة : لإبداء الرأي في استفتاء 13 سبتمبر وجب وضعه في إطار السياق الذي جاء فيه ، والتساؤل عن الوضع قبل الاستفتاء وبعده ومدى تقدم هذا الوضع ديمقراطيا أو تأخره فقبل الاستفتاء كان مطروحا على البساط تعديلات جوهرية في الدستور لإرساء أسس الديمقراطية ودولة الحق والقانون ، وذلك كمطلب وطني شعبي أجمعت عليه كافة القوى الحية بالبلاد لكن الإجراءات التي طرحت من أعلى جاءت غير ذلك ، واستهدفت ترسي وتقنين وضع قانوني يغذي الأزمة السياسية منذ بداية الاستقلال. وحتى بالنسبة لبعض المطالب البسيطة التي لا تغير عمق المسألة الديمقراطية ، مثل توسيع صلاحيات البرلمان ومسؤولية الحكومة أمامه وتعيين الوزير الأول ضمن الأغلبية البرلمانية ، فلقد تم تجاهلها تماما. على العكس من ذلك، تم إضعاف التمثيلية المنبثقة عن الاقتراع المباشر بخلق غرفة المستشارين التي يتم تعيينها بشكل غير مباشر ، والتي لها صلاحيات مماثلة لصلاحيات البرلمان. وإذا كان الجدال قائما قبل الاستفتاء حول ثلث البرلمان المعين بشكل غير مباشر باعتباره يضعف التمثيلية المنبثقة عن الاقتراع العام المباشر . علاوة على الغش والتزوير الذي طال العمليات الانتخابية . أصبح الأمر يتعلق ليس بالثلث بل بنصف التمثيلية عبر خلق غرفة جديدة موازية . وإذا ما حدث خلاف جوهري بين الغرفتين ، وهو أمر وارد نظرا لتقاطع صلاحياتهما ، يبقى التحكيم للجهاز التنفيذي المركزي ... وبدون الإطالة في هذه الاعتبارات يتضح جليا أن المصادقة على الدستور الجديد (شكلا ومضمونا) احدث تراجعا بالنسبة للوضعية التي كانت قائمة ، والتي كانت تتنكر هي بنفسها لأسس الديمقراطية سيادة الشعب ، فصل السلطات ، سيادة التشريعي وخضوع التنفيذي لمراقبته سيادة الحق والقانون ، حقوق المواطنة...) علاوة على التزوير والتدخل السافر للجهاز التنفيذي لصنع الانتخابات وتكييف نتائجها على هواه .
ولهذه الاعتبارات كلها لم يكن أمام المناضلين الديمقراطيين سوى التشبث بالمبادئ الديمقراطية الحقة ورفض تزكية تزوير لإرادة الشعبية وذلك بالمقاطعة النضالية النشيطة للاستفتاء أو عدم المشاركة في التصويت عليه.
اليسار الديمقراطي : ما رأيكم في مشروع الجهوية التي سيصادق عليها البرلمان الحالي؟
عبد الغني بوستة : إبان تاريخ الشعوب إن الجهوية شكلت تقدما في ترسيخ وتطوير حقوق المواطنة ودمقرطة تسيير المرافق الإدارية والاجتماعية وتقريبها من المواطنين ... لكن بشرط أساسي لا محيد عنه ولا جدال فيه ، وهو أن يتم كل هذا في إطار ديمقراطي ، إذ لا معنى للامركزية في غياب أسس الديمقراطية وسيادة نظام مركزي بيروقراطي ، لأنها تنقلب إلى عملية ترقيب الأوتوقراطية من المواطنين ... وفي حالة المغرب تحديدا ، فنحن مقبلون عبر ترسيم الجهوية ، على نظام هجين وفريد من نوعه. فمن جهة نشاهد تقوية المركزية وانتفاخ الجهاز التنفيذي والأمني بشكل مفرط إلى درجة الهيمنة والتأطير المنهجي لكافة مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية وكذا السياسية، ومن جهة أخرى يتم إقرار الجهات واللامركزية المزعومة في غياب أسس الديمقراطية كما أشرنا . وبصريح العبارة أخشى أن نتجه نحو تكوين إقطاعيات محلية حسب تقطع جهوي تعسفي ، وبالتالي استنساخ وتعداد "سيركويات" الرشوة وابتزاز المواطنين ، وإذكاء التنافس السلبي على المصالح المحتكرة من طرف الأقلية المستغلة التي ستجد مرتعا لتوسيع نفوذها وقاعدتها الاجتماعية . هذا علاوة على إذكاء النعرات الجهوية التي تلوح مخاطرها في الآفاق ، وذلك في غياب الإطار الديمقراطي الصحيح. وهنا تكون الدولة مرة أخرى قد تنصلت من مسؤولياتها الاجتماعية (في الصحة والتعليم والتشغيل...) ليصبح الأمر "فوضى فيما بينهم"، وذك مقابل دورها في التحكيم والتعالي على المشاكل الحقيقية والتفرغ لتقوية الجهاز التنفيذي الأمني الذي لن تلين قبضته ومراقبته لكافة مرافق الحياة .
اليسار الديمقراطي : ماهي اقتراحاتكم العملية لتجاوز البلوكاج الموجود داخل المجتمع المدني وداخل المحيط السياسي؟
عبد الغني بوستة : ليس لدي للأسف حل سحري للخروج من المأزق السياسي الراهن، إذ لا
مخرج منه سوى بالنضال الديمقراطي الطويل النفس و الواسع النطاق ، والذي يحشد كل القوى
الحية في البلاد من أجل بديل تحرري ديمقراطي يجيب على الحاجيات المعيشية الملموسة للمواطنين
في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذا السياسة بالمعنى النبيل للكلمة. ويتعين لي
أن التكتيك السياسي السليم في هذه المرحلة "ارق من حد السيف" لأن على هذا التكتيك السير وفق
خط دقيق ويتجنب في ذات الوقت السقوط في المساومة من جهة ، وفي العقم الدوغمائي من جهة
ثانية . إذ أن ترديد المبادئ والشعارات الإستراتيجية لوحدها بعيدا عن الهموم اليومية للمواطن
وبدون إيجاد طرق عملية تنظيمية لتاطير تلك الهموم ، لا يقدم النضال الديمقراطي على ارض الواقع،
كما أن الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع والسقوط في المساومة باسم الواقعية يضعف مصداقية
النضال الديمقراطي ويلحق به أضرارا بليغة . أما الواقعية الحقيقية فهي التي تنظر إلى المخططات
الجارية في بلادنا على حقيقتها بتصبر وموضوعية ، وتقر أن لا بديل عن التشبث بالمبادئ
الديمقراطية والنضال الملموس بكل الطرق المشروعة من أجل إعلاء كلمة العدل والحق والقانون ،
والنضال مع جماهيرنا في كافة الواجهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية حتى يتغير
ميزان القوى لصالحها عبر صيرورة النضال وتثبيت المكاسب الديمقراطية أينما تحققت ، وحتى
يتمكن شعبنا من فرض إرساء دولة الحق والقانون والشروع في إحداث مشروع متكامل للتنمية في
إطار التحرر والديمقراطية. وهنا أيضا علمتنا تجارب الشعوب إن الديمقراطية تكتسب ولا تمنح...
وكبادرة خير في هذا الاتجاه أشير إلى المخاض والنهوض الذي يعرفه مجتمعنا المدني، وإقبال المواطنين على أخذ أمورهم بيدهم والنضال من أجل حقوقهم المهضومة كما يتجلى بشكل خاص في معركة الكرامة التي يخوضها المعطلون حاملي الشهادات العليا ، وكما يظهر في عدد من الحركات النضالية الديمقراطية في مختلف المجالات .
اليسار الديمقراطي : كيف ترون الخروج من هاوية التبعية ؟ وهل لكم بعض الاقتراحات العملية في هذا الباب ؟
عبد الغني بوستة : للجواب على هذا السؤال لا بد من تحديد مفهوم التبعية خاصة في عصرنا الراهن، عصر "العالم القرية " والتواصل والتدويل الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والمعلوماتي والسياسي الذي من المستحيل الوقوف في وجه تطوره العام وتحويله رأسا على عقب. فالخروج من التبعية ضمن الظروف والشروط العالمية في المدى المنظور ، لم يعد يعني قطع كل الصلات بالعالم الخارجي والانطواء داخل حدود الوطن بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي كما حدث في بعض التجارب الثورية ، بل المطلوب هو وضع حد للتبعية العضوية للرأسمال الأجنبي التي تخضع مقدرات البلاد لاستغلاله الاستعماري الجديد والمتجدد، وبناء علاقات الشراكة على أسس متكافئة وفق مفهوم النمو المشترك ( co- developpement ) . هذا أخذا بعين الاعتبار مصالح الشعوب المعنية ومبدأ التعاون والتآخي فيما بينها . وفي هذا الإطار وجب التوجه أولا وقبل كل شيء لأشقائنا في المغرب العربي والوطن العربي لبناء علاقات جنوب جنوب وفق البادئ المذكورة ، وكذلك التوجه نحو إحداث مناطق للنمو المشترك في إطار حوض المتوسط ، وفي علاقة مع أوروبا وغيرها ، دائما وفق نفس المبادئ . لكن كل هذا رهين بطبيعة الحال بمدى إصلاح الذات على المستوى الوطني وإحداث التغيير المنشود ، والشروع في تفعيل برنامج تحريري تنموي في إطار ديمقراطي . فالخروج من التبعية جزء لا يتجزأ من هذا البرنامج، وستظل بلادنا للأسف ترزح تحت نيرها طالما ظلت تعاني من هيمنة أقلية مستغلة طفيلية تابعة ومربوطة بمصالح الدوائر الرأسمالية العالمية .
اليسار الديمقراطي : كنتم دائما تطالبون بضرورة قيام جبهة ديمقراطية شعبية ، فما هو تصوركم لهذه الجبهة وما هي الأسس التي ترونها ملازمة لقيامها ؟
عبد الغني بوستة: باختصار شديد فإننا ننادي بقيام جبهة عريضة تضم كل القوى التي تناضل من أجل إرساء أسس الديمقراطية في بلادنا وهذه الجبهة في تصورنا ليست لقاءا أو اتفاقا في القمة بين قيادة معينة ، بل أنها تنبني عبر صيرورة نضالية في القاعدة وعبر النضال الديمقراطي المشترك في كافة المجالات كما أنها تنبني على ثوابت مبدئية لا محيد عنها وهي :
1- تحديد الخط الفاصل بين الكتلة الشعبية من جهة وكتلة الأقلية المستغلة والمستبدة من جهة ثانية ، والتزام مكونات الجبهة المعبرة عن الكتلة الشعبية لهذا الخط الفاصل الناصع البين ، وعدم القبول بالخلط والتداخل وتلغيم الصف الوطني الديمقراطي والسقوط في المساومة مع الكتلة المستغلة .
2- التحالف المبدئي بين مكونات الجبهة، بمعنى الالتقاء الموضوعي والواعي والنزيه حول أهداف المرحلة بشكل استراتيجي (بمعنى إستراتيجية المرحلة) وبالتالي الابتعاد عن أساليب التكتل المصلحي واللامبدئي الذي ينتهي مع انتهاء الأغراض الذاتية العرضية التي كانت من وراء قيامه .
3- تحديد البرنامج الديمقراطي للجبهة كأساس لقيامها ، برنامج تتفق عليه جميع مكونات الجبهة عبر مشاورات ونقاشات متأنية وواسعة النطاق ، وتلتزم كل مكونات الجبهة بالعمل على انجازه بروح المسؤولية وتسبيق المصلحة الجماعية على المصلحة الذاتية .
4- اعتماد الديمقراطية الداخلية ونبد كل الممارسات المنافية لها ، مثل السلطوية وهيمنة طرف على الأطراف الأخرى والاحتواء والانفراد بالقرارات الأساسية .
5- وإذا كانت هذه الثوابت الأربعة تشكل العمود الفقري للجبهة الديمقراطية ، فان العمل على قيام هذه الأخيرة يعتبر نضالا في حد ذاته ، ويتطلب من الديمقراطيين المخلصين كثيرا من الصبر والتحمل لتقريب المسافات بين المناضلين وتجاوز الخلافات الثانوية لصالح الاتفاقات الأساسية ، والفرز والتمييز ما بين المشاكل العرضية والأخرى الأساسية والموضوعية التي لا ينفع معها التغاضي والتجاوز والتلفيق ، بل من الأفضل الوعي بها وحصرها وتحديدها وترك الباب مفتوحا لتجاوزها مستقبلا عبر نتائج الممارسة . هذا النضال بمشاقه ومعاناته مطروح أمامنا كمناضلين ديمقراطيين من مختلف الفصائل ، جنبا إلى جنب مع تطور الحركة الجماهيرية عموما .
اليسار الديمقراطي: إنكم أحد مؤسسي حركة الاختيار الثوري، هل لكم أن تعطونا لمحة ولو موجزة عن هذه التجربة النضالية ؟
عبد الغني بوستة : بإيجاز كبير تأسست حركة الاختيار الثوري سنة 1975 كحركة اتحادية تصحيحية من طرف مناضلين منتمين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، الذي أصبح كما هو معروف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعدما غير اسمه سنة 1974 . وكان تغير الاسم هذا إجراءا شكليا لكنه حمل أيضا إشارات دالة تحت عنوان "القطيعة مع الماضي " أي التنكر للماضي النضالي الثوري " وإحداث منعطف يميني داخل الحزب تحت عنوان" مسلسل التحرير والديمقراطية " "الإجماع الوطني والسلم الاجتماعي " الذي انطلق في نفس الظرف وجاء المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975 ليثبت ويقنن هذا المنعطف إيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا ، وبعد مرحلة من الصراع داخل الحزب في قطاعي العمل والطلبة هنا في الخارج ، ومحاولة إبلاغ صوت المناضلين للمؤتمر الاستثنائي نفسه (والذي تم إقباره) اعتبرت مجموعة من المناضلين الاتحاديين الانضباط الحزبي الأعمى لم يعد ذي معنى أمام الانحراف اليميني الخطير لقيادة الحزب ، كما أن الصراع هنا في الخارج مع المجموعة اليمينية أصبح ضربا من العبث. فقرروا بالتالي الاجهار بصوتهم عبر جريدة شهرية تحمل اسم "الاختيار الثوري " نسبة للتقرير الشهير للشهيد المهدي بن بركة ، وذلك للتوجه للرأي العام بصفة عامة وفضح المؤامرة المحبوكة ضد شعبنا بدعوى " الإجماع الوطني" ، ومخاطبة القواعد الاتحادية في الداخل قصد المساعدة على رفع الغشاوة والتضليل والإبهام وجعل كل مناضل يختار موقعه وموقفه عن إدراك ومعرفة. وللتوضيح فان حركة الاختيار الثوري لم تسع أبدا لخلق تنظيم أو حزب جديد في الداخل لأن هدفها كان هو مخاطبة القواعد الاتحادية الحزبية وليس المزايدة عيها ولا خلق ازدواجية تنظيمية لها . ولقد حدثت بعض المبادرات الفردية والتلقائية في هذا الاتجاه نظرا للسمعة والعطف الذي حضت به حركة الاختيار الثوري لدى المناضلين ، فتدخلنا لحسم الموضوع والحث على تجميع الصفوف ورصها داخل قواعد الاتحاد الاشتراكي المناضلة. وفعلا شرع تيار اليسار يتبلور من جديد داخل الاتحاد الاشتراكي وعرف مسيرة نضالية تصحيحية في صراع مزدوج داخل الحزب وخارجه وصيرورة من التوضيح الفكري والسياسي والتنظيمي دامت ما يناهز عقدا من الزمن ، وأدت إلى الحسم النهائي مع اليمين من خلال حرك 8 مايو 1983 المعروفة ، والإعلان عن "الاتحاد الاشتراكي للجنة الإدارية ، كحزب مستقل تنظيميا. وعرفت حركة الاختيار الثوري من جهتها تناقضا داخليا صارخا مع نهج شعبوي انقلابي لا علاقة له بالأسس الذي انبنت عليها الحركة ولا بأهدافها الأصلية ، وحسمت الحركة هذا التناقض سنة 1983 أيضا عبر بيان علني يوضح القطيعة النهائية مع هذا النهج ، حيث اعتبرت أن الإصلاح والمساومة من جهة والشعبوية والمغامرة من جهة ثانية ، عبارة عن "وجهان لنفس العملة " الفاسدة وهكذا تزامن الحسم في الداخل والخارج، فاعتبرت حركة الاختيار الثوري أن مهمتها التصحيحية قد انتهت ، فأقبلت من تلقاء ذاتها وقرار جماعي من كافة أعضائها على حل نفسها مع انصهار مناضليها داخل "الاتحاد الاشتراكي -اللجنة الإدارية " الذي سيغير اسمه سنة 1992 لرفع أي التباس أو خلط مع الاتحاد الاشتراكي ، وليسبح "حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي " كما هو معروف .
اليسار الديمقراطي : هناك ولاشك رأي لكم في المخاض الذي تمر به فصائل ما يسمى عادة باليسار الجديد، ما هو تقييمكم لهذه القوى ؟
عبد الغني بوستة : كسائر المناضلين الديمقراطيين اهتم بهذا المخاض وأحاول تتبع تطوراته حسب الإمكان ، خاصة وان لي داخل "اليسار الجديد" أصدقاء ورفاق أكن لهم الاحترام والتقدير سواء اتفقنا أو اختلفنا في الرأي لكن رغم ذلك لا استطيع الإدلاء بتقييم لهذه القوى نظرا لعدم معرفتي الدقيقة بمجريات تطوراتها الأخيرة ، ولأنها تحديدا تجتاز مرحلة من المخاض وإعادة الهيكلة وإعادة النظر وتدقيق الخيارات المذهبية والسياسية والتنظيمية فيصبح إذاك التقييم سابق لأوانه ...ما استطيع الإدلاء به هو التمني من صميم القلب أن تتمكن هذه القوى من ممارسة الحوار الديمقراطي الشفاف لتقييم تجربتها النضالية السابقة تقييما موضوعيا بما لها وما عليها ولن تستنتج منها دروسا للحاضر والمستقبل ، وان تتمكن من إعادة هيكلة نفسها وفق ذلك . فإن تمت الوحدة بين جميع فصائلها على أسس واضحة وموضوعية ، فهناك أكثر من وسيلة للتعاون والتآزر والعمل النضالي المشترك بين كافة فصائل الحركة الديمقراطية وفق أهداف ديمقراطية نضالية بدءا بالعمل المشترك والمبادرات الجماعة في القاعدة ، وهو الأساس الصلب لأية وحدة نضالية وصولا إلى بناء الجبهة الديمقراطية المنشودة . وهناك بادرة ايجابية في هذا الاتجاه نتجت من خلال موقف مقاطعة استفتاء 13 سبتمبر أو عدم المشاركة في التصويت عليه، هذا الموقف المتميز الذي ضم أكثر من طرف سياسي وجمعوي بصيغة من الصيغ ، كما تجدر الإشارة إلى المبادرات النضالية المشتركة على مستوى القواعد والتي تأمل تطورها ومواكبتها لهموم الناس وقضاياهم الملموسة وحقوقهم المشروعة.
اليسار الديمقراطي : أن تجربة القوى التقدمية المغربية اشتكت بمرض عضال هو النزعة الفردية وكذلك الذاتيات في التعامل ، هل من الممكن أن تعطونا رأيكم في هذا الموضوع ؟
عبد الغني بوستة:النزعة الفردية السلطوية هي من مخلفات مجتمعنا الذي يسود فيه الاستبداد والعقلية الإقطاعية. وهي تبدأ على مستوى القبلية بعدما تحول دور الشيخ من التمثيلية الوفية إلى الزعامة المستبدة ، وتم إفراغ "الجماعة" من محتواها الديمقراطي ، وتمتد هذه الظاهرة إلى الدور الذي لعبه القواد الإقطاعيون الكبار في تاريخ المغرب ، كما أنها تشمل كافة هياكل الدولة المخزنية . وعند ما نقول إن الإيديولوجية والعقلية الإقطاعية لازالت سائدة في بلادنا ، رغم مظاهر العصرنة الشكلية ، فإنها فعلا كذلك، ولازلنا نرى مخلفاتها على مستوى العائلة والمدرسة والإدارة والاقتصاد والثقافة السائدة .. وبما أن الحركة التقدمية جزء حي من هذا المجتمع الحي ، بات من الموضوعي أن تعيد إنتاج نسبة من مخلفات النزعة الفردية اللاديمقراطية في داخلها. ولكن رغم الطابع الموضوعي لهذا المعطى ، فليس من المسموح أبدا لأية قوى تعتبر نفسها ديمقراطية أن تستأنس به، أو تقبل به كقدر منزل وبالتالي أن تتسامح في المبادئ الديمقراطية وتتعامل معها بشكل مطاط حسب الطلب كما انه ليس من المسموح للمناضل الذي يتبنى الطرح الديمقراطي ، أن يمارس عكسه مع رفاقه أو أسرته أو في إطار مهنته أو في علاقاته الاجتماعية بصفة عامة ، وإذ نحن نطمح إلى تحقيق الديمقراطية لشعبنا فمن واجبنا أن نبدأ بتطبيقها على أنفسنا أولا وقبل كل شئ، واكبر جهاد نقوم به يوميا هو الجهاد ضد ضعفنا وعاهاتنا ومن اجل إصلاح ذاتنا وتقويم سلوكياتنا ومراقبتها باستمرار. والحركة الديمقراطية لن تستحق صفتها تلك، إلا إذا استطاعت أن تطبق الديمقراطية على نفسها، شكلا ومضمونا ، وبأنجع الصيغ وأكثرها تطورا، وأن تبرز داخل المجتمع كنموذج يحدث القطيعة مع النموذج والعقلية الإقطاعية السائدة ، قطيعة في الطرح
الفكري والسياسي وأساسا في السلوك اليومي بين دواتها وفي علاقاتها بالمواطنين. إذاك ومن خلال انسجام قولها بفعلها ستكسب ثقة هؤلاء المواطنين وتساهم فعلا في خدمة طموحاتهم التحررية الديمقراطية. وللإشارة فان قيم النزاهة والاستقامة ، وحفظ الكرامة الشخصية وكرامة الآخر ، والوفاء بالكلمة والوعد، واحترام الرأي الآخر ومجادلته وفق قواعد الديمقراطية بدون تدجيل ولا غش أو تزوير...ليست بقيم متجاوزة بدعوى الانسجام مع" روح العصر" بل هي من صميم اليم الديمقراطية وجزء لا يتجزأ منها.
وخلاصة أقول إنني أشاطرك في أن النزعة الفردية البراغماتية والذاتيات في التعامل بين المناضلين لحقت أضرارا كبيرة بالحركة التقدمية ولازالت ، وان تطبيق الديمقراطية الداخلية في المستوى النموذجي المطلوب مسألة مطروحة لكافة فصائل الحركة التقدمية ، وقد تتسبب مجددا في تصدعات وتعترات وردات لن يستفيد منها سوى خصومها وأعداؤها ولذلك حان الأوان لنولي هذه المسألة ، ومسألة السلوك النضالي الرفاقي بالتحديد ، الأهمية التي تستحقها في نفس درجة الفكر والمواقف والشعارات السياسية..
اليسار الديمقراطي : ماهي الخلاصة التي يمكن تقديمها لهذا الحوار ؟
عبد الغني بوستة : قبل كل شئ اشكر جريدة اليسار الديمقراطي التي أتاحت لي فرصة الحوار والتعبير عن بعض الآراء ، ومن خلالها أوجه تحياتي الأخوية لقرائها ولكافة المناضلين الديموقراطيين وعن مضمون حوارنا يتعين لي إنني ركزت أكثر على مظاهر الأزمة التي تمر بها بلادنا والأخطار المحدقة بوطننا وشعبنا . وهذا من باب الواقعية السياسية وتجنب سياسة النعامة ، وليس من باب النظرة التشاؤمية أو اليأس ورغم أنني لم أتعرض بما يكفي من التفصيل لمظاهر النضال الايجابي أأكد أن شعلة الكفاح الديمقراطي مقادة في مغربنا ، وستظل كذلك رغم العواصف والزوابع ، تغذيها ظروف موضوعية عنيدة ، وأن شبابنا الذي يشكل أغلبية شعبنا مقبل على نضال تحرري ديمقراطي من اجل انتزاع حقوقه المشروعة وبالتالي فإن الأمل في تحقيق الغايات العليا لوطننا وشعبنا ، وتحرر بلادنا واسترداد السيادة الكاملة لشعبنا وإرساء دولة الحق والقانون والخروج من عهد "الرعية" لدخول عهد المواطنة الكاملة .. لازال هذا الأمل قائما كاملا . ذلك أن الأمل والتفاؤل والإصرار في درب الكفاح من شيم المناضلين الديمقراطيين التقدميين.
أجرى الحوار محمد المباركي
باريس في 25 نوفمبر 1996
اليسار الديمقراطي : لندخل مباشرة في صلب الموضوع : هل لكم أن تعطونا تصوركم للوضعية العامة التي تمر بها البلاد راهنا ؟
عبد الغني بوستة: لا أتردد في القول بأن الوضعية العتمة التي تمر بها بلادنا ، وضعية خطيرة تنطوي على أخطار واضحة للعيان وأخرى متسترة أو كامنة والحقيقة أن الأزمة في بلادنا ليست بالشئ الجديد ، لكن جملة التطورات و الإجراءات الرسمية الأخيرة في المستويات الاقتصادية والاجتماعية شكلت في حصيلتها الكمية والنوعية منعطفا أساسيا في تاريخ بلادنا، سبق أن شبهته في إحدى المقالات بعملية "اكس لي بان" جديد وهذا التشبيه للإثارة فقط، وله حدود بطبيعة الحال نظرا لتباين الظروف التاريخية ، لكن الأمر يتعلق في كلتي الحالتين بعملية إجهاض وردة. ذلك أن عملية "ايكس لي بان" لسنة 1956 أجهضت الكفاح الوطني وفوتت على شعبنا سيادته واستقلاله الحقيقي سياسياً واقتصادياً و" أدخلت الاستعمار من النافذة بعد أن خرج من الباب " كما قال الشهيد المهدي بن بركة ، بينما نشاهد اليوم في ظل هيمنة النظام الرأسمالي العالمي عملية تفكيك هياكل اقتصادنا الوطني و"إعادة استعماره " بطرق جديدة متطورة من جهة ، ومن جهة أخرى تفويت السيادة الشعبية وإجهاض الديمقراطية المبنية على الأسس المتعارف عليها إنسانياً ، وتثبيت طرق الحكم المخزنية في أواخر القرن العشرين .
صحيح أن هيمنة الاستعمار الجديد على اقتصادنا الوطني سارية منذ عملية ايكس لي بان الأولى ، واتضحت أكثر من 10 سنوات من التقويم الهيكلي تحت تعليمات وأوامر صندوق النقد الدولي والمؤسسات الرأسمالية العالمية ، لكن الإجراءات الرسمية المتتالية مؤخراً جاءت تتويجاً لهذه الهيمنة ، وزادت في تمتين روابط التبعية للأجنبي ، وقد ترهن مقدرات بلادنا للعقود المقبلة أذكر من بينها إجراءات الخوصصة التي فوتت الرصيد الوطني الاقتصادي للخواص،واتفاقية المنظمة العالمية للتجارة (الكاط سابقاً) وأساساً اتفاقية الشراكة مع المجموعة الأوروبية التي ستمزق النسيج الاقتصادي الوطني بعد إقرار المنافسة الحرة وسقوط كل الحواجز الجمركية إذاك لن يصمد نسيج الشركات والمقاولات الصغيرة والمتوسطة أمام منافسة الشركات الأوروبية (وهي منافسة تقدر بالواحد ضد المائتين ) وسيكون مصيرها الاختفاء من الساحة الاقتصادية التي لن يبقى فيها سوى التجمعات الاقتصادية الكبرى من صنف أونا وأخواتها والتي هي أصلاً مشتركة مع الأجنبي .
أما على الصعيد السياسي فلقد جاءت الإجراءات الرسمية عبارة عن تكملة جدلية للإجراءات الاقتصادية ذلك أن إعادة استعمار الاقتصاد لا يمس بالسيادة الشعبية والديمقراطية والمواطنة .. وفي الوقت الذي عرف فيه النضال الديمقراطي مداً ايجابياً وتطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة ، سواء على المستوى الحقوقي أو السياسي أو بالنسبة للمخاض الذي يعرفه المجتمع المدني عموماً ، وأصبح الرأي العام الداخلي والخارجي مترقباً أو مشدوداً لما ستعرفه البلاد من تطورات ديمقراطية، جاءت الإجراءات الرسمية لإجهاض هذا المد، وإجهاض فرصة إرساء أسس الديمقراطية ودولة الحق والقانون. تجلى هذا في شكل جملة متكاملة من الإجراءات والتقنيات : "الحوار الاجتماعي" للجم مطالب الطبقة العاملة مسبقا وحبس الملف الاجتماعي في إطار تراض هزيل مغشوش ، تقنين الدستور نهائيا بشكل يفوت السيادة الشعبية ويضرب أسس الديمقراطية المتعارف عليها ، ترتيب الانتخابات المقبلة وإحالة إصدار قوانين مصيرية (الجهورية) على البرلمان الحالي المزور بشهادة الجميع، وبصفة عامة تخلي الدولة عن واجباتها الاجتماعية والتخفيف من أعبائها مقابل تقوية الجهاز التنفيذي والأمني وتثبت هيمنة المركزية على كافة مرافق الحياة ..
اليسار الديمقراطي: في هذا السياق ما رأيكم في الاستفتاء الذي حصل في 13 سبتمبر الماضي؟
عبد الغني بوستة : لإبداء الرأي في استفتاء 13 سبتمبر وجب وضعه في إطار السياق الذي جاء فيه ، والتساؤل عن الوضع قبل الاستفتاء وبعده ومدى تقدم هذا الوضع ديمقراطيا أو تأخره فقبل الاستفتاء كان مطروحا على البساط تعديلات جوهرية في الدستور لإرساء أسس الديمقراطية ودولة الحق والقانون ، وذلك كمطلب وطني شعبي أجمعت عليه كافة القوى الحية بالبلاد لكن الإجراءات التي طرحت من أعلى جاءت غير ذلك ، واستهدفت ترسي وتقنين وضع قانوني يغذي الأزمة السياسية منذ بداية الاستقلال. وحتى بالنسبة لبعض المطالب البسيطة التي لا تغير عمق المسألة الديمقراطية ، مثل توسيع صلاحيات البرلمان ومسؤولية الحكومة أمامه وتعيين الوزير الأول ضمن الأغلبية البرلمانية ، فلقد تم تجاهلها تماما. على العكس من ذلك، تم إضعاف التمثيلية المنبثقة عن الاقتراع المباشر بخلق غرفة المستشارين التي يتم تعيينها بشكل غير مباشر ، والتي لها صلاحيات مماثلة لصلاحيات البرلمان. وإذا كان الجدال قائما قبل الاستفتاء حول ثلث البرلمان المعين بشكل غير مباشر باعتباره يضعف التمثيلية المنبثقة عن الاقتراع العام المباشر . علاوة على الغش والتزوير الذي طال العمليات الانتخابية . أصبح الأمر يتعلق ليس بالثلث بل بنصف التمثيلية عبر خلق غرفة جديدة موازية . وإذا ما حدث خلاف جوهري بين الغرفتين ، وهو أمر وارد نظرا لتقاطع صلاحياتهما ، يبقى التحكيم للجهاز التنفيذي المركزي ... وبدون الإطالة في هذه الاعتبارات يتضح جليا أن المصادقة على الدستور الجديد (شكلا ومضمونا) احدث تراجعا بالنسبة للوضعية التي كانت قائمة ، والتي كانت تتنكر هي بنفسها لأسس الديمقراطية سيادة الشعب ، فصل السلطات ، سيادة التشريعي وخضوع التنفيذي لمراقبته سيادة الحق والقانون ، حقوق المواطنة...) علاوة على التزوير والتدخل السافر للجهاز التنفيذي لصنع الانتخابات وتكييف نتائجها على هواه .
ولهذه الاعتبارات كلها لم يكن أمام المناضلين الديمقراطيين سوى التشبث بالمبادئ الديمقراطية الحقة ورفض تزكية تزوير لإرادة الشعبية وذلك بالمقاطعة النضالية النشيطة للاستفتاء أو عدم المشاركة في التصويت عليه.
اليسار الديمقراطي : ما رأيكم في مشروع الجهوية التي سيصادق عليها البرلمان الحالي؟
عبد الغني بوستة : إبان تاريخ الشعوب إن الجهوية شكلت تقدما في ترسيخ وتطوير حقوق المواطنة ودمقرطة تسيير المرافق الإدارية والاجتماعية وتقريبها من المواطنين ... لكن بشرط أساسي لا محيد عنه ولا جدال فيه ، وهو أن يتم كل هذا في إطار ديمقراطي ، إذ لا معنى للامركزية في غياب أسس الديمقراطية وسيادة نظام مركزي بيروقراطي ، لأنها تنقلب إلى عملية ترقيب الأوتوقراطية من المواطنين ... وفي حالة المغرب تحديدا ، فنحن مقبلون عبر ترسيم الجهوية ، على نظام هجين وفريد من نوعه. فمن جهة نشاهد تقوية المركزية وانتفاخ الجهاز التنفيذي والأمني بشكل مفرط إلى درجة الهيمنة والتأطير المنهجي لكافة مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية وكذا السياسية، ومن جهة أخرى يتم إقرار الجهات واللامركزية المزعومة في غياب أسس الديمقراطية كما أشرنا . وبصريح العبارة أخشى أن نتجه نحو تكوين إقطاعيات محلية حسب تقطع جهوي تعسفي ، وبالتالي استنساخ وتعداد "سيركويات" الرشوة وابتزاز المواطنين ، وإذكاء التنافس السلبي على المصالح المحتكرة من طرف الأقلية المستغلة التي ستجد مرتعا لتوسيع نفوذها وقاعدتها الاجتماعية . هذا علاوة على إذكاء النعرات الجهوية التي تلوح مخاطرها في الآفاق ، وذلك في غياب الإطار الديمقراطي الصحيح. وهنا تكون الدولة مرة أخرى قد تنصلت من مسؤولياتها الاجتماعية (في الصحة والتعليم والتشغيل...) ليصبح الأمر "فوضى فيما بينهم"، وذك مقابل دورها في التحكيم والتعالي على المشاكل الحقيقية والتفرغ لتقوية الجهاز التنفيذي الأمني الذي لن تلين قبضته ومراقبته لكافة مرافق الحياة .
اليسار الديمقراطي : ماهي اقتراحاتكم العملية لتجاوز البلوكاج الموجود داخل المجتمع المدني وداخل المحيط السياسي؟
عبد الغني بوستة : ليس لدي للأسف حل سحري للخروج من المأزق السياسي الراهن، إذ لا
مخرج منه سوى بالنضال الديمقراطي الطويل النفس و الواسع النطاق ، والذي يحشد كل القوى
الحية في البلاد من أجل بديل تحرري ديمقراطي يجيب على الحاجيات المعيشية الملموسة للمواطنين
في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذا السياسة بالمعنى النبيل للكلمة. ويتعين لي
أن التكتيك السياسي السليم في هذه المرحلة "ارق من حد السيف" لأن على هذا التكتيك السير وفق
خط دقيق ويتجنب في ذات الوقت السقوط في المساومة من جهة ، وفي العقم الدوغمائي من جهة
ثانية . إذ أن ترديد المبادئ والشعارات الإستراتيجية لوحدها بعيدا عن الهموم اليومية للمواطن
وبدون إيجاد طرق عملية تنظيمية لتاطير تلك الهموم ، لا يقدم النضال الديمقراطي على ارض الواقع،
كما أن الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع والسقوط في المساومة باسم الواقعية يضعف مصداقية
النضال الديمقراطي ويلحق به أضرارا بليغة . أما الواقعية الحقيقية فهي التي تنظر إلى المخططات
الجارية في بلادنا على حقيقتها بتصبر وموضوعية ، وتقر أن لا بديل عن التشبث بالمبادئ
الديمقراطية والنضال الملموس بكل الطرق المشروعة من أجل إعلاء كلمة العدل والحق والقانون ،
والنضال مع جماهيرنا في كافة الواجهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية حتى يتغير
ميزان القوى لصالحها عبر صيرورة النضال وتثبيت المكاسب الديمقراطية أينما تحققت ، وحتى
يتمكن شعبنا من فرض إرساء دولة الحق والقانون والشروع في إحداث مشروع متكامل للتنمية في
إطار التحرر والديمقراطية. وهنا أيضا علمتنا تجارب الشعوب إن الديمقراطية تكتسب ولا تمنح...
وكبادرة خير في هذا الاتجاه أشير إلى المخاض والنهوض الذي يعرفه مجتمعنا المدني، وإقبال المواطنين على أخذ أمورهم بيدهم والنضال من أجل حقوقهم المهضومة كما يتجلى بشكل خاص في معركة الكرامة التي يخوضها المعطلون حاملي الشهادات العليا ، وكما يظهر في عدد من الحركات النضالية الديمقراطية في مختلف المجالات .
اليسار الديمقراطي : كيف ترون الخروج من هاوية التبعية ؟ وهل لكم بعض الاقتراحات العملية في هذا الباب ؟
عبد الغني بوستة : للجواب على هذا السؤال لا بد من تحديد مفهوم التبعية خاصة في عصرنا الراهن، عصر "العالم القرية " والتواصل والتدويل الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والمعلوماتي والسياسي الذي من المستحيل الوقوف في وجه تطوره العام وتحويله رأسا على عقب. فالخروج من التبعية ضمن الظروف والشروط العالمية في المدى المنظور ، لم يعد يعني قطع كل الصلات بالعالم الخارجي والانطواء داخل حدود الوطن بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي كما حدث في بعض التجارب الثورية ، بل المطلوب هو وضع حد للتبعية العضوية للرأسمال الأجنبي التي تخضع مقدرات البلاد لاستغلاله الاستعماري الجديد والمتجدد، وبناء علاقات الشراكة على أسس متكافئة وفق مفهوم النمو المشترك ( co- developpement ) . هذا أخذا بعين الاعتبار مصالح الشعوب المعنية ومبدأ التعاون والتآخي فيما بينها . وفي هذا الإطار وجب التوجه أولا وقبل كل شيء لأشقائنا في المغرب العربي والوطن العربي لبناء علاقات جنوب جنوب وفق البادئ المذكورة ، وكذلك التوجه نحو إحداث مناطق للنمو المشترك في إطار حوض المتوسط ، وفي علاقة مع أوروبا وغيرها ، دائما وفق نفس المبادئ . لكن كل هذا رهين بطبيعة الحال بمدى إصلاح الذات على المستوى الوطني وإحداث التغيير المنشود ، والشروع في تفعيل برنامج تحريري تنموي في إطار ديمقراطي . فالخروج من التبعية جزء لا يتجزأ من هذا البرنامج، وستظل بلادنا للأسف ترزح تحت نيرها طالما ظلت تعاني من هيمنة أقلية مستغلة طفيلية تابعة ومربوطة بمصالح الدوائر الرأسمالية العالمية .
اليسار الديمقراطي : كنتم دائما تطالبون بضرورة قيام جبهة ديمقراطية شعبية ، فما هو تصوركم لهذه الجبهة وما هي الأسس التي ترونها ملازمة لقيامها ؟
عبد الغني بوستة: باختصار شديد فإننا ننادي بقيام جبهة عريضة تضم كل القوى التي تناضل من أجل إرساء أسس الديمقراطية في بلادنا وهذه الجبهة في تصورنا ليست لقاءا أو اتفاقا في القمة بين قيادة معينة ، بل أنها تنبني عبر صيرورة نضالية في القاعدة وعبر النضال الديمقراطي المشترك في كافة المجالات كما أنها تنبني على ثوابت مبدئية لا محيد عنها وهي :
1- تحديد الخط الفاصل بين الكتلة الشعبية من جهة وكتلة الأقلية المستغلة والمستبدة من جهة ثانية ، والتزام مكونات الجبهة المعبرة عن الكتلة الشعبية لهذا الخط الفاصل الناصع البين ، وعدم القبول بالخلط والتداخل وتلغيم الصف الوطني الديمقراطي والسقوط في المساومة مع الكتلة المستغلة .
2- التحالف المبدئي بين مكونات الجبهة، بمعنى الالتقاء الموضوعي والواعي والنزيه حول أهداف المرحلة بشكل استراتيجي (بمعنى إستراتيجية المرحلة) وبالتالي الابتعاد عن أساليب التكتل المصلحي واللامبدئي الذي ينتهي مع انتهاء الأغراض الذاتية العرضية التي كانت من وراء قيامه .
3- تحديد البرنامج الديمقراطي للجبهة كأساس لقيامها ، برنامج تتفق عليه جميع مكونات الجبهة عبر مشاورات ونقاشات متأنية وواسعة النطاق ، وتلتزم كل مكونات الجبهة بالعمل على انجازه بروح المسؤولية وتسبيق المصلحة الجماعية على المصلحة الذاتية .
4- اعتماد الديمقراطية الداخلية ونبد كل الممارسات المنافية لها ، مثل السلطوية وهيمنة طرف على الأطراف الأخرى والاحتواء والانفراد بالقرارات الأساسية .
5- وإذا كانت هذه الثوابت الأربعة تشكل العمود الفقري للجبهة الديمقراطية ، فان العمل على قيام هذه الأخيرة يعتبر نضالا في حد ذاته ، ويتطلب من الديمقراطيين المخلصين كثيرا من الصبر والتحمل لتقريب المسافات بين المناضلين وتجاوز الخلافات الثانوية لصالح الاتفاقات الأساسية ، والفرز والتمييز ما بين المشاكل العرضية والأخرى الأساسية والموضوعية التي لا ينفع معها التغاضي والتجاوز والتلفيق ، بل من الأفضل الوعي بها وحصرها وتحديدها وترك الباب مفتوحا لتجاوزها مستقبلا عبر نتائج الممارسة . هذا النضال بمشاقه ومعاناته مطروح أمامنا كمناضلين ديمقراطيين من مختلف الفصائل ، جنبا إلى جنب مع تطور الحركة الجماهيرية عموما .
اليسار الديمقراطي: إنكم أحد مؤسسي حركة الاختيار الثوري، هل لكم أن تعطونا لمحة ولو موجزة عن هذه التجربة النضالية ؟
عبد الغني بوستة : بإيجاز كبير تأسست حركة الاختيار الثوري سنة 1975 كحركة اتحادية تصحيحية من طرف مناضلين منتمين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، الذي أصبح كما هو معروف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعدما غير اسمه سنة 1974 . وكان تغير الاسم هذا إجراءا شكليا لكنه حمل أيضا إشارات دالة تحت عنوان "القطيعة مع الماضي " أي التنكر للماضي النضالي الثوري " وإحداث منعطف يميني داخل الحزب تحت عنوان" مسلسل التحرير والديمقراطية " "الإجماع الوطني والسلم الاجتماعي " الذي انطلق في نفس الظرف وجاء المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975 ليثبت ويقنن هذا المنعطف إيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا ، وبعد مرحلة من الصراع داخل الحزب في قطاعي العمل والطلبة هنا في الخارج ، ومحاولة إبلاغ صوت المناضلين للمؤتمر الاستثنائي نفسه (والذي تم إقباره) اعتبرت مجموعة من المناضلين الاتحاديين الانضباط الحزبي الأعمى لم يعد ذي معنى أمام الانحراف اليميني الخطير لقيادة الحزب ، كما أن الصراع هنا في الخارج مع المجموعة اليمينية أصبح ضربا من العبث. فقرروا بالتالي الاجهار بصوتهم عبر جريدة شهرية تحمل اسم "الاختيار الثوري " نسبة للتقرير الشهير للشهيد المهدي بن بركة ، وذلك للتوجه للرأي العام بصفة عامة وفضح المؤامرة المحبوكة ضد شعبنا بدعوى " الإجماع الوطني" ، ومخاطبة القواعد الاتحادية في الداخل قصد المساعدة على رفع الغشاوة والتضليل والإبهام وجعل كل مناضل يختار موقعه وموقفه عن إدراك ومعرفة. وللتوضيح فان حركة الاختيار الثوري لم تسع أبدا لخلق تنظيم أو حزب جديد في الداخل لأن هدفها كان هو مخاطبة القواعد الاتحادية الحزبية وليس المزايدة عيها ولا خلق ازدواجية تنظيمية لها . ولقد حدثت بعض المبادرات الفردية والتلقائية في هذا الاتجاه نظرا للسمعة والعطف الذي حضت به حركة الاختيار الثوري لدى المناضلين ، فتدخلنا لحسم الموضوع والحث على تجميع الصفوف ورصها داخل قواعد الاتحاد الاشتراكي المناضلة. وفعلا شرع تيار اليسار يتبلور من جديد داخل الاتحاد الاشتراكي وعرف مسيرة نضالية تصحيحية في صراع مزدوج داخل الحزب وخارجه وصيرورة من التوضيح الفكري والسياسي والتنظيمي دامت ما يناهز عقدا من الزمن ، وأدت إلى الحسم النهائي مع اليمين من خلال حرك 8 مايو 1983 المعروفة ، والإعلان عن "الاتحاد الاشتراكي للجنة الإدارية ، كحزب مستقل تنظيميا. وعرفت حركة الاختيار الثوري من جهتها تناقضا داخليا صارخا مع نهج شعبوي انقلابي لا علاقة له بالأسس الذي انبنت عليها الحركة ولا بأهدافها الأصلية ، وحسمت الحركة هذا التناقض سنة 1983 أيضا عبر بيان علني يوضح القطيعة النهائية مع هذا النهج ، حيث اعتبرت أن الإصلاح والمساومة من جهة والشعبوية والمغامرة من جهة ثانية ، عبارة عن "وجهان لنفس العملة " الفاسدة وهكذا تزامن الحسم في الداخل والخارج، فاعتبرت حركة الاختيار الثوري أن مهمتها التصحيحية قد انتهت ، فأقبلت من تلقاء ذاتها وقرار جماعي من كافة أعضائها على حل نفسها مع انصهار مناضليها داخل "الاتحاد الاشتراكي -اللجنة الإدارية " الذي سيغير اسمه سنة 1992 لرفع أي التباس أو خلط مع الاتحاد الاشتراكي ، وليسبح "حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي " كما هو معروف .
اليسار الديمقراطي : هناك ولاشك رأي لكم في المخاض الذي تمر به فصائل ما يسمى عادة باليسار الجديد، ما هو تقييمكم لهذه القوى ؟
عبد الغني بوستة : كسائر المناضلين الديمقراطيين اهتم بهذا المخاض وأحاول تتبع تطوراته حسب الإمكان ، خاصة وان لي داخل "اليسار الجديد" أصدقاء ورفاق أكن لهم الاحترام والتقدير سواء اتفقنا أو اختلفنا في الرأي لكن رغم ذلك لا استطيع الإدلاء بتقييم لهذه القوى نظرا لعدم معرفتي الدقيقة بمجريات تطوراتها الأخيرة ، ولأنها تحديدا تجتاز مرحلة من المخاض وإعادة الهيكلة وإعادة النظر وتدقيق الخيارات المذهبية والسياسية والتنظيمية فيصبح إذاك التقييم سابق لأوانه ...ما استطيع الإدلاء به هو التمني من صميم القلب أن تتمكن هذه القوى من ممارسة الحوار الديمقراطي الشفاف لتقييم تجربتها النضالية السابقة تقييما موضوعيا بما لها وما عليها ولن تستنتج منها دروسا للحاضر والمستقبل ، وان تتمكن من إعادة هيكلة نفسها وفق ذلك . فإن تمت الوحدة بين جميع فصائلها على أسس واضحة وموضوعية ، فهناك أكثر من وسيلة للتعاون والتآزر والعمل النضالي المشترك بين كافة فصائل الحركة الديمقراطية وفق أهداف ديمقراطية نضالية بدءا بالعمل المشترك والمبادرات الجماعة في القاعدة ، وهو الأساس الصلب لأية وحدة نضالية وصولا إلى بناء الجبهة الديمقراطية المنشودة . وهناك بادرة ايجابية في هذا الاتجاه نتجت من خلال موقف مقاطعة استفتاء 13 سبتمبر أو عدم المشاركة في التصويت عليه، هذا الموقف المتميز الذي ضم أكثر من طرف سياسي وجمعوي بصيغة من الصيغ ، كما تجدر الإشارة إلى المبادرات النضالية المشتركة على مستوى القواعد والتي تأمل تطورها ومواكبتها لهموم الناس وقضاياهم الملموسة وحقوقهم المشروعة.
اليسار الديمقراطي : أن تجربة القوى التقدمية المغربية اشتكت بمرض عضال هو النزعة الفردية وكذلك الذاتيات في التعامل ، هل من الممكن أن تعطونا رأيكم في هذا الموضوع ؟
عبد الغني بوستة:النزعة الفردية السلطوية هي من مخلفات مجتمعنا الذي يسود فيه الاستبداد والعقلية الإقطاعية. وهي تبدأ على مستوى القبلية بعدما تحول دور الشيخ من التمثيلية الوفية إلى الزعامة المستبدة ، وتم إفراغ "الجماعة" من محتواها الديمقراطي ، وتمتد هذه الظاهرة إلى الدور الذي لعبه القواد الإقطاعيون الكبار في تاريخ المغرب ، كما أنها تشمل كافة هياكل الدولة المخزنية . وعند ما نقول إن الإيديولوجية والعقلية الإقطاعية لازالت سائدة في بلادنا ، رغم مظاهر العصرنة الشكلية ، فإنها فعلا كذلك، ولازلنا نرى مخلفاتها على مستوى العائلة والمدرسة والإدارة والاقتصاد والثقافة السائدة .. وبما أن الحركة التقدمية جزء حي من هذا المجتمع الحي ، بات من الموضوعي أن تعيد إنتاج نسبة من مخلفات النزعة الفردية اللاديمقراطية في داخلها. ولكن رغم الطابع الموضوعي لهذا المعطى ، فليس من المسموح أبدا لأية قوى تعتبر نفسها ديمقراطية أن تستأنس به، أو تقبل به كقدر منزل وبالتالي أن تتسامح في المبادئ الديمقراطية وتتعامل معها بشكل مطاط حسب الطلب كما انه ليس من المسموح للمناضل الذي يتبنى الطرح الديمقراطي ، أن يمارس عكسه مع رفاقه أو أسرته أو في إطار مهنته أو في علاقاته الاجتماعية بصفة عامة ، وإذ نحن نطمح إلى تحقيق الديمقراطية لشعبنا فمن واجبنا أن نبدأ بتطبيقها على أنفسنا أولا وقبل كل شئ، واكبر جهاد نقوم به يوميا هو الجهاد ضد ضعفنا وعاهاتنا ومن اجل إصلاح ذاتنا وتقويم سلوكياتنا ومراقبتها باستمرار. والحركة الديمقراطية لن تستحق صفتها تلك، إلا إذا استطاعت أن تطبق الديمقراطية على نفسها، شكلا ومضمونا ، وبأنجع الصيغ وأكثرها تطورا، وأن تبرز داخل المجتمع كنموذج يحدث القطيعة مع النموذج والعقلية الإقطاعية السائدة ، قطيعة في الطرح
الفكري والسياسي وأساسا في السلوك اليومي بين دواتها وفي علاقاتها بالمواطنين. إذاك ومن خلال انسجام قولها بفعلها ستكسب ثقة هؤلاء المواطنين وتساهم فعلا في خدمة طموحاتهم التحررية الديمقراطية. وللإشارة فان قيم النزاهة والاستقامة ، وحفظ الكرامة الشخصية وكرامة الآخر ، والوفاء بالكلمة والوعد، واحترام الرأي الآخر ومجادلته وفق قواعد الديمقراطية بدون تدجيل ولا غش أو تزوير...ليست بقيم متجاوزة بدعوى الانسجام مع" روح العصر" بل هي من صميم اليم الديمقراطية وجزء لا يتجزأ منها.
وخلاصة أقول إنني أشاطرك في أن النزعة الفردية البراغماتية والذاتيات في التعامل بين المناضلين لحقت أضرارا كبيرة بالحركة التقدمية ولازالت ، وان تطبيق الديمقراطية الداخلية في المستوى النموذجي المطلوب مسألة مطروحة لكافة فصائل الحركة التقدمية ، وقد تتسبب مجددا في تصدعات وتعترات وردات لن يستفيد منها سوى خصومها وأعداؤها ولذلك حان الأوان لنولي هذه المسألة ، ومسألة السلوك النضالي الرفاقي بالتحديد ، الأهمية التي تستحقها في نفس درجة الفكر والمواقف والشعارات السياسية..
اليسار الديمقراطي : ماهي الخلاصة التي يمكن تقديمها لهذا الحوار ؟
عبد الغني بوستة : قبل كل شئ اشكر جريدة اليسار الديمقراطي التي أتاحت لي فرصة الحوار والتعبير عن بعض الآراء ، ومن خلالها أوجه تحياتي الأخوية لقرائها ولكافة المناضلين الديموقراطيين وعن مضمون حوارنا يتعين لي إنني ركزت أكثر على مظاهر الأزمة التي تمر بها بلادنا والأخطار المحدقة بوطننا وشعبنا . وهذا من باب الواقعية السياسية وتجنب سياسة النعامة ، وليس من باب النظرة التشاؤمية أو اليأس ورغم أنني لم أتعرض بما يكفي من التفصيل لمظاهر النضال الايجابي أأكد أن شعلة الكفاح الديمقراطي مقادة في مغربنا ، وستظل كذلك رغم العواصف والزوابع ، تغذيها ظروف موضوعية عنيدة ، وأن شبابنا الذي يشكل أغلبية شعبنا مقبل على نضال تحرري ديمقراطي من اجل انتزاع حقوقه المشروعة وبالتالي فإن الأمل في تحقيق الغايات العليا لوطننا وشعبنا ، وتحرر بلادنا واسترداد السيادة الكاملة لشعبنا وإرساء دولة الحق والقانون والخروج من عهد "الرعية" لدخول عهد المواطنة الكاملة .. لازال هذا الأمل قائما كاملا . ذلك أن الأمل والتفاؤل والإصرار في درب الكفاح من شيم المناضلين الديمقراطيين التقدميين.
أجرى الحوار محمد المباركي
باريس في 25 نوفمبر 1996