الباحثة هند عروب : المغاربة رعايا وليسوا مواطنين
حاورها : نور الدين لشهب
الأحد 13 يونيو 2010 - 14:34
تعتبر الدكتورة والباحثة هند عروب واحدة من المغربيات الخبيرات في العلوم السياسية، فبعد تجربة خاضتها في مختبر السوسيولوجيا في استراسبورغ بفرنسا إلى غاية 2008، انتقلت للعمل في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية.
الباحثة هند عروب حاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس عام 2007 في أطروحة تقدمت بها بعنوان" مقاربة الأسس الشرعية في النظام السياسي المغربي" وهي الأطروحة نفسها التي صدرت عن دار الآمان عام 2009 ونفذت من السوق في وقت زمني قياسي. كما صدر لها كتاب " " المخزن في الثقافة السياسية المغربية" ضمن منشورات مجلة وجهة نظر العدد 4 في طبعته الأولى عام 2004، والكتاب أطروحة جامعية تقدمت بها الدكتورة هند لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة عام 2003 من جامعة محمد الخامس تحت إشراف الدكتور عبد الطيف حسني.
للأستاذة هند عروب خبرة في مجال الصحافة والإعلام، فهي الآن ضمن هيئة تحرير مجلة "وجهة نظر" المتخصصة في القضايا السياسية والاجتماعية للشأن المغربي، إضافة إلى مساهماتها بمقالات رأي في العديد من المنابر المغربية والعربية.
تشتغل هند على قضايا وملفات تتصل بالخروقات التي تطال حقوق الإنسان، وعلاقة السياسة بالدين، والانتفاضات والحركات الاجتماعية، وقضية الإعلام وحرية التعبير،وعن القضايا الدولية المتعلقة بالعالم العربي والإسلامي كالإرهاب والحرب على العراق وغيرها من القضايا كالميديا الصهيونية والرأي العام الدولي.
- نرحب بك أستاذة هند في هذا الحوار مع قراء "هسبريس" .. من المعلوم أن مفهوم المخزن يثير نقاشا والتباسا لدى العامة كما لدى بعض الكتاب في الصحافة تحديدا، وددنا لو تُشرحي لنا هذا المفهوم بشكل علمي ومبسط ، وأنت الباحثة في الموضوع ؟
المخزن ليس بالبنية العصية على الفهم، كل ما في الأمر أن تجذره و توغله في بنيات المجتمع على مدى خمسة قرون، جعل المقاربات حوله تتعدد،تتباين أحيانا، وتتكامل أحايين أخرى. ومن الطبيعي أن تنتج كل مقاربة مفهومها للمخزن من زاوية نظرها سياسيا، سوسيولوجيا ، انتروبوجيا ...الخ. هذا التعدد المقارباتي، لاينبغي النظر إليه كعائق معقد لعملية تفكيك و فهم مفهوم المخزن، وإلا سننهزم نفسيا وعلميا ، بل إن التعدد المقارباتي هو غنى علمي أوضح و شرح المفهوم من زواياه المختلفة.
ولتبسيط المفهوم، بعيدا عن التعقيدات الأكاديمية، هو مكان لتخزين الجبايات تحول إلى نظام للحكم قائم على استغلال الدين لتبريرشرعيته، وعلى العنف و التفقير و التجهيل و التركيع، والاستحواذ على الثروات وعلى الفساد و الرشوة و تشجيع الانتهازية، و استخدام آليات الخدمة والتقريب و الهبات والاغراء والاحتواء ، وعلى رعاية الفوضى ومأسستها. و يقوم أيضا على نظام من الضرائب قائم على مبدأ " ريش الطير ليطير"، و على التسرب و الاختراق و الانقسامية في كل المجالات السياسية و الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
- سبق للسيد محمد اليازغي أن صرح بأن المخزن قد مات، فهل المخزن قد مات سووسيولوجيا وانثروبولوجيا وسياسيا؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه مزيادة سياسية؟ وما خلفية وسياق هذا التصريح من لدن السيد اليازغي برأيك دكتورة؟
طبعا المخزن حي لم يمت. إنه مازال حيا يرزق من عرق محكوميه، العبيد المكرهون والإراديون في ذات الآن. يجيد المخزن لعبة الاستمرارية، يتغذى ويتقوى من المتغيرات، فهو بذلك يتكيف ولا يتغير. ثم كيف يموت المخزن و جذوره لم تقتلع ، إذ ما انفكت تنغرس في البنيات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية. وإذا مات المخزن في نظر السيد اليازغي – في هذه الحالة- يكون خادم من؟. فبعد أن احتوى المخزن معظم المعارضين اليساريين و المعتقلين السابقين، و ألبسهم " الشاشية"، أمسوا يلقون تصريحات على عوانها ليبرروا لأنفسهم انقلابهم. ويكفي وجود الشيخ و المقدم و القايد و "لمخزني" ليدرك أبسط مغربي لم يطالع كل ما كتب عن المخزن ليدرك أن المخزن مازال حيا. ثم لا تنس أن سياسينا منافقون وجهلة، لا يقرؤون و لا يطالعون، و هم بحاجة إلى دورات لمحو أميتهم الثقافية.
- هل الوزير أو البرلماني سياسي له مشروع يدافع عنه أم أنه موظف لدى المخزن؟
لا البرلماني و لا الوزير ولا الأحزاب ولا حتى المجتمع يملك مشروعا في بلاد المخزن. فالوزراء معينون، والبرلمانيون لا يمثلون إلا أنفسهم، و الحكومة " حكومة صاحب الجلالة"، و حياة البرلمان بين يدي " صاحب الجلالة" له أن يحيها أو يميتها أنّى شاء وفق فصول الدستور الممنوح. إن امتلاك مشروع مجتمعي، معناه امتلاك فكر عميق و رؤيا مستقبلية، أما أولئك المنخرطون في المؤسسات السلطانية، فليسوا سوى خدم منفذين للأوامر، وهم بعيدون كل البعد عن مشاكل المجتمه الحقيقية.
لم يحدث أن سمعت يوما برلمانيا أو برلمانية تطالب بوقف مأساة المعطلين، بإرغام الدولة على توفير المناصب او منح تعويضات البطالة – إلى حين الحصول على العمل- لضمان الحد الأدنى من العيش الكريم. لم أسمعهم يوما يطالبون بتوفيرالضمان الصحي والاجتماعي ودخل شهري ولو بسيط للامهات ربات البيوت الكادحات و القرويات المحترقات ، يضمن لهن استقلاليتهن المادية، ونحن نعلم أن غالبية المغاربة ربتهم أمهاتهم اللواتي لم يمن يملكن شيئا سوى سواعدهن.
كما أني استغرب لمسؤولينا الذين درسوا بالجامعات الغربية وعاشوا مفهوم الجامعة معنى ومبنا، وحين يعودون و يعينون في المناصب يكرسون بنيات التخلف و الجهل والفقر.
-الوزير الأول عباس الفاسي صرح فور تعيينه وزيرا أولا أنه سيطبق البرنامج الملكي...
لقد صرح الرجل بضعفه، وأنهى جدل المتجادلين ، خاصة المدافعين عن فكرة "المغرب بلد المؤسسات". فقد أقر تصريح عباس بعدم جدواه – هو نفسه- ثم بعدم جدوى مؤسسة الوزير الأول كما سبق و صرح بذلك عبد الرحمن اليوسفي. إلا ان الفرق بين الرجلين يكمن في ان عباس منطلق من لاجدواه، اما اليوسفي فبعد ان انخرط في لعبة التناوب التوافقي ودعم وهم الانتقال الديمقراطي، عاد ليقر في النهاية بحقيقة كان يدركها منذ البداية.
- هل الانسان المغربي مواطن في ظل ما ذكرت حول مفهوم المخزن؟
وهل يوجد مواطنون في ظل الحكم المطلق. طبعا، لا. والمغاربة ليسوا مواطنين بل هم رعايا راعيهم، و الراعي من يملك رعية – حسب ابن خلدون- ، وهم رهن لإرادته و أهواءه. والرعية لا تملك سلطة محاسبة راعيها، كما أنها لا تعد مصدرا لشرعيته، بل إن الراعي يعتبر شرعيته ممتحة من السماء، وبذلك فهو ليس مسؤولا سوى أمام الله كما كان يردد الحسن الثاني دائما. أما الرعية فملزمة بالسمع و الطاعة رغم القهر، يقول الأديب السلطاني محمد ابن الوليد الطرطوشي " إذا جار السلطان فعليه الوزر وعليك الصبر".
إن المواطنة – حسب دومينك شنابر- تعد مصدرا من مصادر الشرعية، و المواطن ليس موضوعا قانونيا فحسب بل إنه مالك لقسط من السيادة، ينتخب حكامه، ومن حقه مراقبة أفعالهم و محاسبتهم في حالة الإخلال بشوط العقد الاجتماعي. أما نحن في المغرب فنساس بعقد مِلكية بيعوي هرقلي، يماثل في تراث الفكر السياسي الغربي عقد طوماس هوبز القائل بحكم الحاكم المطلق و خضوع المحكوم المطلق.
- برأيك، متى يكون المغربي مواطنا حقا؟
حين يثور على خنوعه، جهله،عبوديته واستعباده، حين يجرؤ على المطالبة بحقوقه، حين يدرك ان الحقوق لا تهدى، و لا تجنى بالنيابة أو الوكالة، أو بانتظار المهدي المنتظر او غودو، او ب " اذهب انت وربك وقاتلا". المغاربة بأيديهم البقاء رعية أو الغدو مواطنين. يتطلب الأمر مسارا مداخله الرئيسية " المعرفة و النضال" لتأسيس وعي عميق بالذات وبدورها تجاه الجماعة للتمرد على " قدرية الأدوار المدونة سلفا في ألواح الرعية" كما سبق وكتبت في إحدى دراساتي حول الموضوع. كما يحتاج المغاربة حاليا إلى التضامن فيما بينهم، وإن كان الأمر صعبا نتيجة الهوة الطبقية. لكن الأقرب إلى التحقيق هو تضامن فئات المحتجين من كل المناطق، لأن التضامن وتوحيد الصفوف من شأنه تحقيق وحدة الهدف والمصلحة وحتى الضرر. كما أنه لا يكفي صراخ الجياع من أجل الخبز، بل ينبغي ان تنضاف إلى هذا الدافع، أسئلة جذرية من قبيل " من حرمنا من الخبز والعيش الكريم؟ ولماذا؟ وإلى متى؟"، هنا ستتخذ الاحتجاجات مضمونا آخر و مسارا لن يتمكن المخزن من إخمادها في مهدها. وكلما تقاعسنا، تأخرنا عن موعد اليقظة و جنينا المزيد من الاستعباد لأن حركية التاريخ لا تنتظر أحدا.
- بعد ظهور حزب عالي الهمة " الأصالة والمعاصرة" وجدنا أن مجموعة من الكتابات كانت تشبهه بزعيم الفديك أحمد رضا كديرة، مع العلم أن حزب الفديك ظهر في ظل صراع وتجاذب بين أحزاب لها مشروعية نضالية تستمدها من الحركة الوطنية وجيش التحرير في مواجهة القصر، أما اليوم فإن جميع الأحزاب لا تعارض القصر ، بل الكل أصبح يدافع عن "المشروع الملكي" فما هي أهداف أو القيمة المضافة لهذا الحزب الذي جعله بعض السياسيين بأنه يهدد الديمقراطية؟ هل حزب "الأصالة والمعاصرة يهدد الديمقراطية حقا ؟
وهل توجد ديمقراطية أصلا، حتى تتهدد. الأصالة والمعاصرة ك " حزب" خارج من رحم القصر أريد له لعب نفس دور الفديك ، رغم أنه أضعف، إلا أن وجه الشبه الرئيسي بين المنشأتين الملكيتين دفاعهما المباشر والتأسسيسي عن الملكية و مؤسساتها. أما عن غاية انشائه في ظل ارتماء الأحزاب تحت المظلة السلطانية، فرسالة واضحة من القصر " رغم انبطاحكم ، لا أثق بكم، سأصنع حزبي" . لذا فالأصالة والمعاصرة يعد أرنب سباق القصر في الانتخابات، وهو جزء من التعددية المائعة للمشهد الحزبي الميت.
- ما موقع حزب الأصالة والمعاصرة من المشروع الحداثي الديمقراطي الذي يتبناه النظام؟ وهل لا زال هناك ما يسمى بالمشروع الديمقراطي الحداثي بعد مرور ما يربو عن عشر سنوات من حكم الملك محمد السادس؟
مرة اخرى هل يوجد مشروع ديمقراطي حداثي حتى يكون لأحد موقعا ضمنه. هناك خطة ملكية-مخزنية لتابيد الاستمرارية. أما الحداثة، فما زال بيننا وبينها قرون ضوئية. والحداثة ليست العبث والمجون، وإلا تصير ممسوخة، بل هي مشروع فكري وسيرورة نضالية يؤسسان للمجتمع على أسس الإيمان بالعقل و العلم و الإنسان، و هو إيمان لا يلغي حق الاعتقاد – كما يفهم خطأ - بل يحترم حق الاختلاف، وفي إطار هذا المشروع يمسي العلم ثقافة و الثقافة تنمية بشرية واجتماعية. لذا فالحداثة لا تنجم عن قرار سلطاني – فوقي بل عن حركية تاريخية تقودها الشعوب والمثقفون والمناضلون لإحداث القطيعة عبر القلب التاريخي على بنيات الأرثوذكسية والتخلف والقهر و الجوع.
- هل يوجد لدينا بالمغرب مجتمع مدني؟ علما أن أغلبية الجمعيات بشتى ألوانها وأهدافها أصبحت لا تبحث عن التجديد السياسي بقدر تبحث عن موقع ضمن الحقل السياسي المخزني؟
نفتقر إلى مجتمع مدني ضاغط قادر على مواجهة الدولة، و إرغامها على تحقيق مطالب الفئات التي يمثل. ونحن مازلنا بحاجة إلى هذا النموذج من المجتمع المدني لأن المجتمع بعد لم ينتزع حقوقه، ولم يحقق ذاته. أما المشهد الجمعوي الآني فبدوره انقسامي بين جمعيات أفرزها رحم القصر للتسرب الاجتماعي ، والجمعيات ذات الامتداد الحزبي، والجمعيات المؤسسة من قبل أفراد لا تضيرهم المظلة الملكية بل يلهثون خلف عطايا و هبات القصر ومحيطه، ثم النذر القليل من الجمعيات التي مازالت تؤمن بوظيفتها الضاغطة والرافضة للعطايا رغم فقر امكانياتها المادية والتي تعاني من تعسف السلطة ومضايقات الجمعيات المتمخزنة أو كما أنعتهم " النادي الملكي المدني" الذي يعقد صفقاته في الفنادق والصالات الفاخرة.
- الباحث محمد ضريف في آخر كتبه Monarchie et acteurs religieux يؤكد بأن طبيعة النظام السياسي بالمغرب هي العلمانية، فهل المغرب أو بالأحرى النظام السياسي المغربي إسلامي يستند على إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية كما يردد بعض الإسلاميين المشاركين في اللعبة السياسية، أم هو علماني أم ليبرالي أم هو مزيج ومركب كما هي طبيعة المجتمع المغربي كما يذهب إلى ذلك بول باسكون؟
النظام السياسي المغربي يعتمد ازدواجية الإمارة والعلمانية، إذ يستغل الدين ليعزز شرعيته التقليدية ويبرر عنفه معتمدا الإسلام الأرثوذكسي المؤله للحاكم، والرافض لأي مذهب لا يدين به الحاكم، فأي معارضة تعد ضلالا و كفرا وإثارة للفتنة. ومن ناحية أخرى يمارس العلمانية في مستوياتها الدنيا – دون الإعلان الرسمي عن ذلك – كالتدبير اليومي الدولة، أو نظام الأبناك، بمعنى أنه لا يتبنى العلمانية في جوهرها القائم على فصل الدين عن الدولة أو الأصح فصل الدولة عن الدين بما انها هي من تستغله.
- بعد 16 ماي تحدث خطاب الملك عن " الإمامة العظمي المنوطة بنا" ولم يتحدث عن إمارة المؤمنين، فما الفرق بين الإمامة العظمي وإمارة المؤمنين في النظام السياسي المغربي؟
الإمامة العظمى هي إحدى وظائف إمارة المؤمنين ، فهي المتعلقة بالحاكم كإمام، يؤم الناس دينيا ويرعاهم دنيويا، لذا فالإمامة العظمى تتصل مباشرة بالوظيفة الدينية لأمير المؤمنين. و مقاصد الإمامة عند أهل السنة والجماعة ، القائلين بوجوب نصب الإمام، " إقامة الدين ، و سياسة الدنيا به". وقد عرفها ابن خلدون بأنها " حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به". وهي قائمة في النظام السياسي المغربي بهذا المعنى والمبنى، و قد عاد مفهوم الإمامة العظمى إلى الواجهة في خطب محمد السادس ليكرس دوره الديني كامير للمؤمنين وإمامهم الأعظم المنوط به أمانة حفظ الدين ووحدة المذهب. لذا بتنا نسمع في خطبه آيات فسرها الفقهاء السلطانييون بأنها ذات صلة مباشرة بالإمامة و وجوب اتباعها ، ك " قل هذي سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني". وبهذا يتأكد البعد الإمامي الشيعي لأمير المؤمنين القائل بعصمة الإمام ، بالتالي فمحاربة المذهب الشيعي، هي محاربة لأهم أسس إمارة المؤمنين بالمغرب.
- لماذا بالغ النظام السياسي بالمغرب في اتجاه الضغط على حزب العدالة والتنمية بعد 16 ماي بالرغم من أنه مشارك في اللعبة السياسية كما يحددها النظام، في نفس الوقت تم إخراس بعض الأصوات التي كانت تطالب بفصل الدين عن الدولة، تبدو هناك مفارقة.. أليس كذلك ؟
16 ماي ، كانت فرصة للنظام ليقص ريش المطالبين بفصل الدين عن الدولة و أيضا الإسلاميين بما فيهم إسلاميو البرلمان، ليخرس الأصوات التي لا تلذ على مسامعه، و ليقمع الحقوق والحريات بمنطوق وسريان قانون محاربة الإرهاب. ثم إن النظام لا يطرب أحدا برائعة أم كلثوم " أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه "، بل إنه أول ما يعاقب ، يعاقب خدامه والمنبطحين تحت أقدامه، فلا أحد يسلم من مزاجيته . و النظام يكره الإسلاميين بكافة أطيافهم حتى الذين احتواهم نظرا لمزايدتهم على إسلام إمارة المؤمنين، و تجاذبهم و إياها بساط الشرعية الدينية.
- منذ عام 2004 ولا نسمع إلى عن الإصلاح الديني عبر خطة ما سمي بهيكلة الحقل الديني، فهل هذا يعني خدمة للإسلام والوحدة المذهبية كما يقال أم ترميم لمشروعية النظام المخزني التي بدأت تتخوف من " المشروعية" المعاكسة التي بدأت تكتسبها الحركات الإسلامية؟
هيكلة الحقل الديني غايتها إعادة ترسيم أسيجة الحقل الديني و من تم إعادة إحكام السيطرة عليه. أما " خدمة الإسلام و الوحدة المذهبية" فهو مجرد شعار لتبرير سيطرة السلطة على الدين من منطلق الإمامة العظمى لإمارة المؤمنين ، لدرجة إحياء التيارات الصوفية وإعادتها إلى الواجهة خاصة البوتشيشية، و حقيقة الأمر أن لا صلة له بإحياء روحانية ابن عربي أو زهد المتصوفة المنتبذين للخلوات النابذين لظلم السلطان ورياء المجتمع. الغرض من إحياء طقوس الصوفية مواجهة إسلام الحركات الإسلامية، الذين يشترون بكلمات الله ثمنا سياسيا قليلا، ثم إغراق الناس في خيالات الميتافيزيقا بدعوى المحبة الإلهية، وم ثم المحبة السلطاني فواجب الطاعة والتبعية.
- سبق لك دكتورة هند أن كتبت مقالا بعنوان" مثقفون في مزاد السلطة" بمجلة " وجهة نظر" وهاجمت فيه المفكر عبد الله العروي الذي شارك في الكتابة عن عهد السحن الثاني إلى جانب وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، فهل يعني أن المثقف يجب دوما أن يكون معارضا لخيارات السلطة كما بعض نماذج المثقفين الذين تحتفي بهم مجلة " وجهة نظر" ؟ أوليس للمثقف سلطة هو الآخر تجعل السلطان في حاجة إليه، فلولا الشاعر العربي الكبير المتنبي لما عرفنا شيئا عن كافور الاخشيدي، فالمتنبي مثلا كان شاعر السلطة وسلطان الشعر في الآن نفسه، أو ليس من حق المثقف أن يكون مثقفا مخزنيا كما نطالع في الكتابات المخزنية؟
هيهات أن يقارن المتنبي بالمثقفين المنبطحين ماسحي أجواخ السلطان وبطانته. إن المتنبي هو من تسلى بالسلاطين ، استفاد منهم دون أن يتخلى عن كبريائه، و لم تجرده أموالهم من سلاطة لسانه و لا من حكمته، وكثيرا ما كانت قصائده السلطانية ظاهرها مدح و باطنها استهزاء. فما من ذليل مرتزق يقول " الرأي قبل شجاعة الشجعان"، أو " أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي … وأسمعت كلماتي من به صمم"، و هو القائل أيضا و بكل زهو " إن الدهر إلا من رواة قصائدي … إن قلت شعراً أصبح الدهر منشداً". أما الإخبار عن الإخشيدي أو سيف الدولة الحمداني، ففضله لا يعود لصحبة السلطان فحسب، بل إلى الوظيفة الإخبارية والتوثيقية التي كان يقوم بها الشعر كلسان للعرب في المجتمعات العربية القديمة ، إنه ميديا ذلك الزمان، وعبر شعر المتنبي بلغتنا أخبار وصور عن المجتمع العربي في القرن الرابع الهجري.
ولنعد الآن إلى موضوع العروي و المثقف. أولا أنا لم أهاجم العروي ، بل نقدته وفق الشروط العلمية والأخلاقية للنقد. حدث ذلك بعد أن عثرت على نص يمدح فيه الحسن الثاني أيما مدح، والطامة أن النص منشور ضمن دفتي كتاب أشرف عليه ادريس البصري، حينها استعرضت ذاكرتي كل ما قرأته للعروي، و لم أجد لهذا النص موقعا ضمن تراكمه الفكري ككتابه " العرب و الفكر التاريخي" حيث يقول اشياء عن الحسن الثاني تناقض ماجاء في النص الذي عثرت عليه . فكان لابد من أن أسلط الضوء على هذا النص لأشركه مع القارئ، و أعيد التفكير في ماهية المثقف و مهمته.
فالمثقف بالنسبة لي، ليس مجرد رأس مملوءة بكم هائل من المعلومات، بل هو من لديه موقف و رأي شجاع ، يجيد تصريف معلوماته و التغبير عن فكره بوضوح، شخص لا يغتر برأسماله المعرفي ويستحيل إلاها في برج عاجي، و ألا يستخدم سلطته المعرفية للتسلط على الناس بل يكون الجسر الذي يمرر المعرفة، و أن يكون ضميره إنسانيا ملتحم بشكل ملتزم و عضوي بمشاكل مجتمعه، حاضر في الميدان و على خط النار كما على المنابر وأمام الأبواق. لذا فمثل هذا المثقف الملتزم لا يمكن أن ينخرط في دواليب سلطة قهرية لتذله بخدمتها، إذ لن تسمح له بمعارضتها من داخل أحشاءها.
- ما رأيك في مجموعة من المثقفين والباحثين الذين انضموا إلى حزب الأصالة والمعاصرة، ومنهم زملاء لك أستاذة هند كتبوا في مجلة وجهة نظر؟
لو كانوا باحثين ومثقفين حقيقين لما انتحروا تحت عجلات الجرار، ولكن الانتهازية والارتزاق محركان رئيسيان لكل مسجل في دكان صديق الملك. فالقرب من صديق الملك يفتح الأبواب الموصدة، ويذر منافع مادية لن يذرها شقاء الوعي، وحرقة الكتابة. لقد وقَّع هؤلاء على موتهم الفكري والأخلاقي والموقفي.
- نتابع في الصحافة حربا يصنفه البعض بحرب القيم، وفي الأيام الأخيرة هناك من دافع عن حضور المغني البريطاني " إلتون جون" ضمن فعاليات مهرجان موازين، وهناك من رفض حضوره، وبالنهاية حضر إلتون جون وشكر القصر مباشرة، كما أن مشروع المرأة في حكومة اليوسفي عرف هو أيضا نزاعات وصراعات بين " النخبة" في المجتمع وبالنهاية تم التحكيم الملك في الموضوع وعينت لجنة ملكية، فهل هناك صراعا حول القيم داخل المجتمع من الناحية السويولوجية، أم أن المخزن يستغل النزاعات كي يتحكم فيها سياسيا؟
الاثنان معا، الصراع حول القيم واستغلال المخزن لهذا الصراع، بل و رعايته له، فبدون صراع لن يتسنى لأب المخزن أن يمارس تحكيمه. اما الصراع القيمي فطبيعي حدوثة، في ظل مجتمع لم يفرز ذاته بعد، مازال يبحث هويته، لم يحدد مساره بإرادته، ولم يتجاوز بعد المرحلة الطيولوجية من قانون تطور المجتمعات لأوغست كونت، لذا فالصراع حول القيم نتيجة طبيعيه لهذه الوضعية السوسيولوجية. إنه صراع بين قيم عفى عنها الزمن وأخرى وافدة تمارس بشكل مبتور. والصراع الدائر حاليا أشخاصه و مضامينه هزيلة؟ والسؤال هنا، هل يمكن أن يرتقي مضمون الصراع ؟ هل يمكن أن تعود الشخصيات المثقفة، المناضلة والوازنة لقيادة هذا الصراع؟ و هل يمكن أن ينقلنا بعد تحقق شروطه ونجاح أهدافه إلى المرحلة العقلانية من قانون تطور المجتمعات؟
وكنموذج لتفاهة الصراع وضرورة ارتقائه، التناطح دفاعا أو ضدا في مسألة إلتون جون، ليحيد المتصارعون عن الاشكال الحقيقي والمتعلق بميزانيات المهرجانات المهدرة لإخماد الاحتقانات المحتملة، فآلية الاحتفال والعروض الفرجوية المنظمة من قبل السلطة مسعاها "امتلاك عقول الجماهير"، حسب لويس 14 . باستطاعة ميزانيات المهرجانات ورواتب الوزراء والبرلمانيين والجنرالات انهاء مأساة المعطلين المنتحرين علنا – و هو مؤشر خطير لن تسلم عاقبته- . ولو خصص نصف هذه الميزانيات للبحث العلمي لما هاجرت الأدمغة والنصف الآخر لإنشاء الوحدات الانتاجية لما تشرد العمال لما انتحر المغاربة عبر قوارب الموت ولما اصطفوا طوابير أمام السفارات الأجنبية ومكاتب الهجرة. هذا دون الحديث عن تطوير البنى التحتية للقرى و المداشر وحتى المدن.
أما مسألة عدم اكتراث القصر لأصوات رافضي حضور إلتون جون، فهي رسالة بأن القصر لا يذعن لأي تيار، ولا كلمة تعلو فوق كلمته. ويكفي أن سنة 2008 أقيم مهرجان موازين بعيد أيام قلائل من محرقة عمال الدارالبيضاء. ينبغي ألا تكون ذاكرتنا قصيرة، لحظية مصابة بداء النسيان.
- يعرف الجسم الصحفي بالمغرب صراعات لم تعد مقتصرة على علاقة الصحافة بالسلطة، بل نزلت إلى الصراع بين قبيلة الصحفيين أنفسهم، فهل يعني هذا أن " الانقسامية" ségmentarité قد مست "قبائل وزوايا الصحافة" قصد التحكم فيها مخزنيا؟
الصحافة والإعلام عموما مرآة تعكس ما هو حادث بالمجتمع من تدن قيمي وفكري وسلوكي، والصحفييون هم نتاج هذا المجتمع. وللأسف أن المرتزقة منهم والفقراء ثقافيا هم من يسيطرون حاليا على المشهد الصحفي، فأنزلوه إلى الحضيض. لقد عملت بهذا الحقل وعاينت الكثير من التفاهة والأمية والدناءة والتملق والجبن والارتشاء والكتابة تحت الطلب و لمن يقدم ظرفا سمينا. وبمثل هذه الرداءة لا تتغير المجتمعات. أما " الصراع بين الصحافة والسلطة"، ففي القول تضخيم لما هو واقع.