من طرف رياضي الإثنين سبتمبر 26, 2011 2:43 pm
الشهيد عمر بنجلون : سيرة الذات والوطن
عبد الغاني عارف
الحوار المتمدن - العدد: 1383 - 2005 / 11 / 19
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
" إن اغتيال عمر كان ، و لو مرحلياً، ورقة مربحة في رهان قوى الظلم والظلام التي أثبتت الوقائع أنها لا تخاف الزعامات الرسمية والشكلية ، لأنه يسهل تدجينها من موقع حرصها الأجوف على الزعامة ، بقدر ما تخاف من الطاقات المنتجة النابضة بالحركة و الاصرار على الفعل والعطاء… "
***
1 – سيرة الذات أو فصل من سيرة الشبيبة
قبل الأوان غادرنا طفولتنا ... بل حتى قبل أن نكون أطفالاً ...
لم نعرف من صبانا غير فقر آبائنا المسكون بكرامة مجهضة ... كنا نتابع خطواتهم المثقلة بمرارة دفينة : أفجأة كلها الأحلام تتهاوى ؟ كانوا يتساءلون . وعلى هدي من فقرهم كنا نسير ، فهم قرابين الفداء ، من دمهم أعطوا للوطن ، وحبا فيه أذابوا أجسادهم ، وفي منتهى المطاف تتصاعد من قمقم العذاب فجيعة بلون محلي أكثر شراسة من الفجيعة الشقراء القادمة من وراء البحار ، فنفاجأ ، ونحن نولد ، بعرينا المفضوح وبؤسنا المكشوف ... جائعين كنا نسأل آباءنا : لِمَ الجوع بطاقة لهويتنا ؟!... وجاهزاً كطان الجواب : رزق العباد في السماء ... وبين الأرض والسماء والجوع كنا نبحث عن دلالة كل هذا " الرضى الممقوت ... كان فضاء العذاب يشكل نسيج انتمائنا المكاني : فأينما ولينا الوجه فثمة سلطة السيد عاشور1 تتناسل بحرية ، تفرخ تمظهراتها بين فقر المعدمين – ومنهم كنا – وعصا القيادة 2 التي تعلمنا أن لا حقيقة غير حقيقة المخزن : هو السماء في الأرض .. هو الكل في الجزء.. هو القَبْل والبَعْد ، وما عداه بدعة ، وكل بدعة ملآلها ، في شريعة القهر ، الخنق و الإبادة ...
بين " الروبلا" و " أليلي" و " السوق" 3 كانت طموحاتنا المطاردة تتمرد ضد جغرافية الحصار ، وبعنف السؤال كنا نخترق ما أُريد لنا السكوت عنه : لماذا العرق يسيل والحناجر تجف ، ووحده السيد تغرقه النعم والملذات في رحيله وترحاله ؟؟
- صـهْ ! قال فقيه القرية ، إنكم تلعبون بالنار !!!
- وهل من نار بعد هاته التي نحن فيها !؟
- أعوذ بالله من هؤلاء الشياطين ... يقرأون حرفاً ويفكرون في قلب ناموس الكون !!
ويبقى السؤال جارحاً تمتد به مساءاتنا ، وبه صباحلتنا تطول : لماذا هو ...؟؟ ولماذا نحن...؟؟
شيء ما في داخلنا كانة يتحرك و كنا في حاجة إلى من يفتت صخرة حيرتنا و يُسند أسئلتنا المزروعة بحماس الشباب المبكر ... كنا في حاجة لوعي / لغم فكري يفجر المكبوت فينا ليعري تناقضات الواقع ... وكان الانتظار ...
********
وذات زمان كانت بداية المخاض ، حين لفنا ذلك الصباح بآية الرحيل نحو مدينة علمتنا ملامح التوثب فيها أن لا مشيئة غير مشيئة التاريخ . و بتوجس مسكون بالدهشة وقعنا خطوات أولى في " شارع الشهداء" 4 حيث بدأ الأفق يتبلور بمفاهيم جديدة : المادية الجدلية ، المادية التاريخية ، الحركة الوطنية ، البروليتاريا ، الوعي الطبقي .... وبين كل مفهوم و مفهوم كانت تلمع أسماء و أسماء : ماركس ، غيفارا ، كرامشي ، المهدي ، عمر ... وبكل عطشنا المعرفي كنا نذوب في تلك الأسماء وبدأنا نعي لماذا كان السيد عاشور سيداً بلا رخصة ولا سابق إذن ! لماذا كان الفقر هوية آبائنا القانعين ! لماذا كانت شريعة القهر تتطاول على الأحلام قصد إجهاضها !!... و تلك كانت أسئلتنا الكبرى ، وتلك كانت علاقتنا الأولى بعمر ... ولم نكد نقيم في ذواتنا محراباً لعشق هذا الاسم حتى جاءنا الخبر ذاك الصباح : لقد اغتيل عمر ...!!!
2- سيرة الوطن أو فصل من سيرة التاريخ
أجل لماذا اغتيل عمر .. وما دلالة ذلك الاغتيال ؟؟
إنه السؤال الذي لا يجب التفريط في طرحع المرة تلة الأخرى ، لا لأن شبكة الأيادي الملطخة بوحل الطعن و الغدر مجهولة ، بل لأن التفكير في واقعة الاغتيال في حد ذاتها ، وكذا في خلفياتها و كل الحيثيات المحيطة بها، مهمة من المهام الأساسية المطروحة على أية حركة تاريخية تشق طريقها في ظروف مثل التي تركها عمر بعد استشهاده، وذلد قصد الاسترشاد بمنعطفات التاريخ و رصد ثوابت الواقع في جدلية تفاعلها مع متغيراته وفق نظرة تحليلية لا تعزل حلقات الأحداث بعضهاى عن بعض ، بل تنظر إليها في شموليتها أولا، وثانياً في ارتباطها بمكونات الصراع ومحركاته الأساسية .
إن اختيار عمر ، من طرف قوى الظلام والعدم باختلاف تلاوينها ، كهدف للتصفية لم يكن وليد صدفة عابرة ، بل إنه حلقة في سلسلة طويلة كانت و متزال و ستظل إلى أن يحسم التاريخ لصالح قوى كرامة الانسان وحريته .
لقد كان عمر ، بفكره اليقظ و نشاطه الوثاب ، رأس الحربة في معركة التصدي لترسانة الطبقة التي تستمد نسغ بقائها و استمراريتها من تعميق الاستغلال و مضاعفة الاضطهاد. و لإنه كان يقف في صف الشرفاء الذين يرفضون تزييف التاريخ و يرفضون المساهمة في تضليل الجماهير ، كما كان يقف ضد مقولة التحييد المؤت للصراع؛ لأنه كان كذلك فلم يكن غريباً أن يكون مستهدفاً من طرف أكثر من جهة واحدة ، و بالتالي فإن واقعة اغتياله لا تمثل سوى التجسيد النهائي لكثير من من المؤامرات التي كانت تحاك ضده ، و التي ، وإن كانت تختلف في منابعها و رؤاها ، فإنها تتساكن و بتواطؤ مفضوح و مسكوت عنه في نفس الوقت ، عندما يتعلق الأمر بالرغبة الهستيرية في تغييب رموز تختزل التاريخ في أبهى صوره و أكثرها إشراقاً كما هو الأمر بالنسبة لعمر .
و عليه فما من شك أن اغتيال عمر كان ، و لو مرحلياً، ورقة مربحة في رهان قوى الظلم والظلام التي أثبتت الوقائع أنها لا تخاف الزعامات الرسمية والشكلية ، لأنه يسهل تدجينها من موقع حرصها الأجوف على زعامتها بالذات ، بقدر ما تخاف من الطاقات المنتجة النابضة بالحركة و الاصرار على الفعل والعطاء ، لأنها طاقات تتجمع لديها، بحكم ذكائها الاستثنائي ونظرتها البعيدة للأمور ، خيوط التنظير للمستقبل . ولذلك بالضبط اغتيل المهدي وعمر وكرينة بنما بقي " كبار" آخرون يرفلون في نعيم الراحة وينتظرون المؤتمرات والكراسي والمناسبات لينشروا النضال يميناً و "يساراً" ، وكما كان عمر يقول عنهم ، يؤمنون بإمكانية خلق " الحماس الشعبي" تحت الطلب ...
و في مقابل هذه الحقيقة ، لا مفر لنا من الاعتراف أن اختفاء عمر يمثل خسارة لقوى النضال و التحرر ليس فقط لأنه كان مناضلاً مخلصاً و صامداً في اختياره النضالي ، بل لأنه كان من القلة القليلة التي كانت تدرك ، بعمق ، نافذ، طبيعة الصراع الذي تخوضه حركة التحرير الشعبية. و بتالتالي كان واعياً بأن هناك منطلقات ىيستحيل إنجاز مهمة التحرير دون إيمان المناضلين به والانطلاق منها في تسيير دفة الصراع .
ولعل أبرز ما كان يركز عليع عمر في هذا الصدد ما يلي :
1. الوضوح الجرئ في اتخاذ المواقف النضالية و تبنيها بمسؤولية واعية و العمل من أجل بلورتها في الواقع.
2. ضرورة توعية الطبقة العاملة و التركيز عليها في أي برنامج نضالي حتى تتخذ موقعها المنوط بها تاريخياً في معركة التحرير و البناء الاشتراكي.
3. التصدي للفكر الخرافي الغيبلي الذي يقف عائقاً أمام فعالية الفكر النقدي العلمي الذي يجب أن يؤطر الاختيارات الايديولوجية المتبناة في الصراع.
4. النضال من أجل الديموقراطية الحقيقية التي تكون نابعة من الجماهير الشعبية و خادمة لها في نفس الوقت ، ورفض الديمقراطية النابعة من التراتبية الشكلية للمؤسسات ، ذلك لأن " الديمقراطية التي تنحصر في مؤسسات موازية لدواليب الجهاز لا يمكن أن تكون سوى غطاء يخفي المستفيدون وراءه هويتهم الحقيقية "
بهذه الشمولية ، وبهذه النظرة العميقة كان عمر يدرك طبيعة الصراع الذي يخوضه الحزب ، وكان يركز على إقناع المناضلين بأن أي " تصور تقدمي و ثوري للتاريخ لابد أن له أن يرتكز على اعتبار أن التاريخ الحقيقي هو تاريخ الشعوب ونضال الشعوب "
وكان الشهيد عمر كان ، بهذا الإثبات النظري ، يهدف إلى خلق مناعة مبدئية لدى المناضلين ضد التسيب و التحريف ، حتى لا تتحول المبادئ إلى مجرد شعارات للإستهلاك المناسباتي توقع بها شيكات السمسرة و الارتزاق السياسي .
هكذا إذا ، وانطلاقاً من تجميع خيوط المعطيات السابقة يمكن أن نخلص إلى أن اغتيال عمر بنجلون يمثل لحظة من لحظات سيرة هذا الوطن و هو ينسج فضاء تاريخه الآتي ... إنه نقطة لها دلالتها ضمن دائرة أوسع في إطار الصراع الذي تخوضه طلائع التقدم و التغيير ضد قوى النهب و الاستغلال المدعومة داخلياً من طرف فلول الاقطاع ، وخارجياً من طرف الامبريالية المعادية لحق الشعوب في الحرية والكرامة .
واليوم ، إذ نقف في الذكرى 14 لاستشهاد عمر بن جلون نكون مطالبين أكثر من أي وقت مضى ، بضرورة العمل من أجل تحصين الخط الذي من أجله استشهد عمر و قبله المهدي ، و ذلك من خلال التصدي المستمر لكل تحريف " يبشر " به سماسرة التضليل ، وكذا من خلال الوفاء لدرب الشهداء ...
إنها مسؤولية المناضلين الشرفاء في الدفع بالتاريخ نحو الأمام وجعل قافلة التحرير تشق فعلاً طريقها بإصرار ...