حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، من أين والى أين؟
أيار (مايو) 2007
المناضل-ة عدد: 16
رفيق الرامي
« حزب الطليعة حزب نخرت عظامه، وناكص ومعزول سياسيا، ومضبب الرؤية، ومتراجع تنظيميا إلى أسوأ حالاته. وهيئات القرار فيه، عكس ما تنص أنظمته لا تمارس صلاحياتها. وتأثيره في النقابات العمالية محدود جدا، أصبح شبه منعدم الوجود، وكثرت الانسحابات، وضعف تأثيره في المنظمات الجماهيرية ،و ما سمي بالمؤتمر الخامس لا يستحق إلا النسيان لأنه شكل قفزة واضحة نحو المجهول.»
هذه توصيفات تخللت تقييم مناضل ساهم في بناء التجربة، يصف الحالة من داخل، ويسعى لتحليلها حرصا على مستقبل الحزب، متمسكا بالمشروع الاشتراكي وما يستدعيه من أدوات نضال. كان ذلك في مقالات نشرها محمد الخباشي بعنوان «حزب الطليعة، شمعة في مهل الريح» بموقع الحوار المتمدن بانترنت في أكتوبر 2005.
كان واضع تلك الحصيلة المؤسية، التي قد يتفق مع بعض عناصرها حتى الملاحظ خارج الحزب، من كوادر حزب الطليعة الشابة، وعضوا بالمجلس الوطني، ثاني هيئة قرار بعد المؤتمر، وعضوا بقيادة شبيبة الحزب، وبهيئة تحرير جريدته، وباللجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس.
لا شك أن الاستياء من حالة هذا الحزب هو موقف كل مناضل صادق داخله، و ولا ريب أيضا أن الحسرة على ما انتهت إليه تلك التجربة التي عمرت أكثر من ربع قرن هو شعور كل مناضل منتسب إلى قضية تحرر الطبقة العاملة، لأنها تجربة استهلكت أعدادا من قوى النضال الفتية، جرى استقطابها بشعارات بناء الأداة الثورية، حزب الطبقة العاملة، والانتساب إلى تراث نضالي جذري.
إنها خسارة لقضية تحرر كادحي المغرب، تستوجب الفهم، ومد جسور النقاش الرفاقي مع مناضلي تلك التجربة ، سواء الذين يواصلون تبنيها على أمل إصلاحها، أو من ابتعدوا عنها تنظيميا مع الوفاء لُمثل النضال العمالي التي حدت بهم إلى الإسهام فيها.
ان النقاش الفكري والسياسي ضرورة ملحة لتطوير الحالة اليسارية الجذرية القائمة ببلدنا، هذه الحالة التي صمدت رغم الإخفاقات العديدة لكن أقساما منها مهددة بالانقراض ما لم تبلور الإجابات التي يستدعيها نضال الكادحين.
هذا النقاش هو غاية وجهة النظر التالية التي تسعى الى إيضاح طبيعة التيار الذي أفضى إلى حزب الطليعة بإلقاء أضواء تاريخية على مساره وبنقاش خطه السياسي.
==
لا يمكن تحليل ما يميز حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي ولا فهم مضامين خطابه دون العودة إلى الأصول الشعوبية للرحم الذي خرج منه، أي الحركة الاتحادية وتحولاتها ارتباطا مع الحياة السياسية بالمغرب .
1 ) الحركة الاتحادية: يسار حركة وطنية برجوازية
تمكنت البرجوازية المعادية للاستعمار ، ممثلة في حزب الاستقلال ، من الانفراد بقيادة نضال التحرر الوطني بفعل موقف الحزب الشيوعي المغربي من مسألة تحرير المغرب . هذا الموقف الذي كان محكوما بتخلي الحزب الشيوعي الفرنسي ، تحت هيمنة الستالينية ، عن السياسة اللينينية في مسألة المستعمرات . وكان من مستتبعات هذا الموقف المباشرة توجه الجماهير العمالية ، والكداحة بوجه عام ، صوب حزب الاستقلال فاكسبه ذلك قاعدة شعبية واسعة . وبعد ثلاث سنوات من تحول السيطرة الاستعمارية الى شكلها غير المباشر انسلخ قسم من هذه القاعدة الجماهيرية ليكون مع مناضلين من منظمات المقاومة المسلحة بالمدن وجيش التحرير بالأرياف و أطر النقابة العمالية حركة شعبوية جماهيرية كانت اكبر قوة سياسية يسارية شهدها تاريخ المغرب لكنها ضعيفة الانسجام الاجتماعي و الوضوح الفكري والسياسي : الاتحاد الوطني للقوات الشعبية . ويمكن إجمال خصائص هذه الحركة في :
حركة متعددة الطبقات (القوات الشعبية): اذ شملت سواء من حيث التأطير او دائرة التأثير :
مثقفي البرجوازية الراديكاليين
كادحي المناطق القروية التي استوطنها جيش التحرير
القواعد العمالية للاتحاد المغربي للشغل .
فئات شعبية من أشباه البرولتاريا وتجار صغار وحرفيين ومنفصلين طبقيا
قيادة بورجوازية / برجوازية صغيرة ، منها قسم من قيادة حزب الاستقلال نفسه و أطر المقاومة وجيش التحرير وبيروقراطية المنظمة النقابية .
ج) إيديولوجيا وطنية معادية للاستعمار وذات طلاء اشتراكي تمتزج فيها تأثيرات ناصرية وبعثية وماركسية .
لم تتمكن هذه الحركة من استلام السلطة، الا ان موازين القوى مكنتها لفترة وجيزة من المشاركة في الحكومة برئاسة أحد قادة الحزب ( عبد الله إبراهيم ) مشاركة ساهمت في توضيح مضامين برنامج الشعبوية. فالخطة الخماسية 1960-1964 التي أعدت في تلك الفترة سعت الى " تعبئة كل الوسائل الكفيلة بضمان استقلال البلد ونموه اعتمادا على قواه الذاتية " وتمحورت توجهاتها الأساسية حول :
بناء قاعدة صناعية وتدخل الدولة المباشر لتصنيع البلد ليس بإلغاء دور الرأسمال المحلي بل بإعداد الإطار المواتي لتراكمه .
إصلاحات لاجل توسع الزراعة واصلاح البنيات الزراعية وشروط الاستغلال
إعداد قوة العمل ذات كفاءة : التكوين المهني وتعميم التعليم
إصلاح البنيات الإدارية
ومن تجليات الطابع الشعبوي للحركة ، في الفترة ذاتها ، ما حصلت عليه الجماهير العمالية من تنازلات اقتصادية واجتماعية كان في مقدمتها : الضمان الاجتماعي والحد الأدنى للأجور والسلم المتحرك للأجور والأسعار والاتفاقات الجماعية وقانون عمال المناجم .
وتوهمت الحركة الشعبوية إمكان إنجاز برنامجها في إطار ملكية دستورية مطالبة بانتخاب جمعية تأسيسية لاقامة هذه الملكية . بيد ان مطامحها الدستورية اصطدمت برفض الاتوقراطية التي اجتهدت لإرساء دعائم استبدادها عبر توثيق روابطها بالإمبريالية .
في السنوات الأولى للاستقلال الشكلي تعاونت بورجوازية حزب الاستقلال مع الملكية في سعيها لتمويه الطابع المطلق لحكمها بينما استغرق الحزب الشيوعي بفعل ستالينيته اليمينية في خمول افقده أي تأثير .
هكذا أضحت الحركة الشعبوية، التي استقطبت السخط الجماهيري على ثمار الاستقلال ، الطرف السياسي الوحيد الذي يفزع الملكية فعملت على إبطال مفعولها عبر :
تحطيم الجناح الراديكالي بقمع المناضلين الذي جاءوا من منظمات المقاومة وجيش التحرير ( اعتقالات ومحاكمات بداية الستينات ) واغتيال المهدي بنبركة لتغدو الحركة دون رأس .
إفساد بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل بإغداق الامتيازات عليها واحتضانها .
وقد ساهمت تناقضات الحركة الشعبوية نفسها في تيسير هزمها من قبل الاتوقراطية اذ كانت موزعة بين من يرون في المساومات سبيلا لدمقرطة النظام ( بوعبيد ومن معه ) ومن حاولوا اعتماد الإرهاب المفصول عن صراع الطبقات لإطاحة الملكية (البصري ) . هذا علاوة على تنازع الهيمنة على حركة العمال الجنينية بين أطراف من الحركة الشعبوية لا يخدم ايا منها مصالح الطبقة العاملة : بيروقراطية النقابة ومثقفي البرجوازية الراديكاليون
وسيفضي هذا التنازع الى فصل النقابة العمالية عن الحزب الشعبوي . وكانت الضربة القاضية على الجناح الثوري في الشعبوية المغربية هي فشل محاولاتها تنظيم كفاح مسلح في نهاية العقد السادس وبداية السابع ( مناضلو محاكمة مراكش وحركة 3 مارس ) وما تلاها من قمع ( محاكمات و اعدامات 73-74 )
هكذا بعد 15 سنة من وجودها فقدت الحركة الشعبوية قاعدتها العمالية وبتر جناحها الثوري وفسح النظام المجال للجناح اليميني لينبعث بقوة في ظل الوحدة الوطنية حول العرش . فعاد ما تبقى من الحركة الشعبوية الى الساحة السياسية سنة 1974 ( باسم الاتحاد الاشتراكي ) برضا ورعاية القصر مساهما في حملة هذا الأخير بصدد الصحراء ومؤديا دورا فعالا داخل مؤسسات تمويه الحكم المطلق .
تجسد هذا المنعطف في تاريخ الشعبوية في المؤتمر الاستثنائي ( يناير1975) [1] الذي كان خطوة اولى نحو الوضوح الففكري والسياسي بصدور صياغة أوضح لمطالب الإصلاح الاجتماعي والسياسي . الا انه كلحظة انتقالية وتجنبا لاي اعتراض داخلي محتمل ، حافظ على بعض أوجه الخطاب الشعبوي وعلى شعار " الاشتراكية العلمية كمنهجية تحليل وكهدف " وهي اشتراكية لا تتجاوز تصنيع البلد وتوسيع القطاع المؤمم وتحكم الدولة في التجارة الخارجية وتحديث نظام الملكية السياسي .
وكان الموقف من سلطة العمال في مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية ( دكتاتورية البروليتاريا) كاشفا لطبيعة تلك الاشتراكية .
ارتمى الاتحاد الاشتراكي جسدا وروحا في حملة الملك لضم الصحراء ولم يدخر جهدا لتبرير كل خطواته، من تقتيل لجماهير الصحراء، واتفاقية مدريد بين نظام فرانكو والنظامين المغربي والموريتاني لضمان مصالح الأول وتوزيع الغنيمة بين الآخرين . كما شارك في نفس السياق في سعي النظام الى تمويه بطشه بانتخابات بلدية (نوفمبر 1976) وبرلمان ( يونيو 1977) سائرا في ذيل النظام باسم الوحدة الوطنية وتدعيم الجبهة الداخلية .
هذه الوضعية السياسية وموقع الحزب منها ستساعده على تجديد بنيته باستقطاب فئات اجتماعية متباينة وتجعل منه قوة ذات دور كبير في الساحة الجماهيرية .
ان الخط السياسي للحزب كمعارضة معتدلة سيجلب الأكاديميين والبرجوازيين الصغار من ذوي المهن الحرة ، خاصة المحامين، بكثرة ويساهم كل هؤلاء من جهتهم في تعميق الخط الإصلاحي الليبرالي ونفض ما تبقى من ميول راديكالية شعبوية .
انفتاح 74-75 كان ثغرة في دياجير الاتوقراطية جعلت الجماهير تبدي اهتماما بالشأن السياسي فاتجهت صوب الاتحاد الاشتراكي باعتباره القوة السياسية الشرعية الوحيدة في الساحة ذات ماض " معارض " للحكم المطلق فمنحته أصواتها في انتخابات 76-77 خاصة بالمدن .
كان تبقرط الاتحاد المغربي للشغل حقا اريد به باطل، اذ دعا الاتحاد الاشتراكي، مستغلا تجميد البيروقراطية للاتحاد النقابي، الى كسر وحدة العمال النقابية بتأسيس اتحاد بديل .
وقد تزامن الرد العمالي على الهجوم البرجوازي ( تقشف ميزانية 78-80) مع هذه المبادرة فحفزها لتتوج بتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل . وبهذا مدد الحزب تأثيره الى فئات من الطبقة العاملة خاصة مستخدمي الإدارات والخدمات العمومية .
في نفس الحقبة عاد نضال الطلاب ليفرض رفع المنع عن نقابتهم واستفاد الاتحاد الاشتراكي من توافد أفواج من المناضلين الطلاب عليه ومن هيمنته على قيادة الحركة .
جددت هذه السيرورة بنية الحزب دون ان تضفي عليه طابع الانسجام ووفرت للمناضلين ذوي الحنين الى الشعبوية تربة مواتية في الذهنية الرافضة التي بدأت بالتكون داخل الحزب عبر انتقادات جزئية ومبعثرة سواء في موضوعها او توقيتها : وكان أهمها :
رفض مواقف الحزب من مهزلة الانتخابات وسير عمل المؤسسات التمثيلية المنبثقة عنها
الاحتجاج على استشراء الوصولية والفساد داخل الحزب واندماجه المتزايد بجهاز الدولة
استياء من مواقف الحزب من إرسال الملك للجيش الى زايير لقمع ثوار شابا
رفض علاقة الحزب بالأممية الاشتراكية لوجود حزب العمل الإسرائيلي بها ( فقط !)
تغذى التيار النقدي ، المتشبث بغموض الماضي ، من هذا التذمر لكنه لم يشكل عقبة أمام المزيد من تدحرج الحزب الى اليمين وبلورة أوضح لخطه السياسي الليبرالي .
وفعلا كان المؤتمر الثالث ( دجنبر 1978) نهاية للإبهام الذي فرضته على الحزب ضرورات منعطف 1975 : الربط بين الشعبوية القديمة والطموح الى ضرب من " الاشتراكية الديمقراطية " . فقد ألقى هذا المؤتمر الضوء الكافي على شعار الحزب ( التحرير –الديمقراطية – الاشتراكية ) فبعد ان واخذ "الطبقات المحظوظة " ، كما يسميها ، على عجزها عن التحول الى بورجوازية وطنية حقيقية وتفضيلها مصالحها الآنية، تكلف بالنيابة عنها في بناء " الدولة الوطنية الديمقراطية " . وليس بناء تلك الدولة ،الذي كان شعار برنامج المؤتمر الثالث ، اكثر من الوهمين التاليين :
اقتصاد رأسمالي مستقل يقوم فيه القطاع العام بدور القاطرة والموجه للقطاع الخاص وهذا ما يسميه الاشتراكية .
تحديث الملكية بإسنادها الى مؤسسات وجعل الملك " حكما فوق الطبقات والأحزاب " وهذا ما يسميه بالديمقراطية
اما التحرير فهو مجاراة النظام في سياسته بشأن الصحراء او المزايدة عليه في الوطنية .
شهدت الفترة الفاصلة بين المؤتمر الثالث ومايو 1983 اشتداد صراع التيار النقدي مع قيادة الحزب تم وضع حد له بفصل المنتقدين .
ورغم ان هذه الفترة شهدت صعود النضالات النقابية فان هذا لم يكن له أي اثر مباشر على نمو التيار النقدي فهو لم يظهر كتوجه داخل الحركة العمالية، بينما كان للنهوض في الساحة الطلابية أهمية اكبر حيث سمح باتساع تأثيره لدرجة بدا فيها الصراع مع الاتجاه السائد صراعا من طرف شبيبة الحزب . ومنذ بداية الصراع المفتوح سنة 1979 اقتصر على انتقادات جزئية وانطباعية ليست كلا قابلا ليكون بديلا عن الخط الرسمي للحزب . وابرز ما شملته تلك الانتقادات :
ممارسة مسؤولي الحزب ممن افسدهم مؤسسات ديمقراطية المخزن .
عدد من مواقف الحزب من قضايا السياسة العالمية لاسيما حرب العراق على إيران .
استفتاء 23 ماي 1980 ( يحدد سن رشد الملك في 16 سنة )
المطالبة بسحب نواب الحزب من المجالس المحلية والبرلمان
كانت هذه المسألة الأخيرة محور المشادات الى غاية حسم الصراع في مايو 83 .
وبعد ذلك أوغل الاتجاه البوعبيدي في سياسته متدحرجا الى حضن النظام لنجدته، خاصة ان الحقبة طبعت بتفاقم الديون والازمة الاقتصادية متزايدة الصعوبة والوضع الاجتماعي المنذر بالانفجار .
أسدى هذا الاتجاه خدمات للحكم أملا في ترميمه وظل يستجدى البرجوازية لاستتباب واستقرار النظام محاولا إيهام الكادحين بوحدة المصالح مع الاتوقراطية .
استكمل مؤتمرا الاتحاد الاشتراكي الرابع (1984) والخامس (1989) سيرورة اتضاح هوية الحزب السياسية :"اشتراكية ديمقراطية" منسجمة مع سلطة الملك أي إصلاحية ليبرالية مدجنة .
إزاء هذه السيرورة التاريخية من تفكك الحركة الشعبوية ظل المناضلون النقديون متمسكين بمرحلة من تاريخها لم تكن سوى محطة انتقالية متوهمين انهم بذلك سيبنون الحزب الثوري .
وبعد ازيد من ثماني سنوات من الوجود خارج الاتحاد الاشتراكي استقلوا عنه بالاسم : حزب الطليعة دون الاستقلال عنه فعلا اذ يؤكدون الانتساب الى تراث الحزب وبرنامجه .
2) حزب الطليعة : بلبلة فكرية وسياسية
أثار ظهور تيار اليسار في الاتحاد الاشتراكي منذ نهاية السبعينات اهتمام المناضلين الثوريين لعوامل عدة :
بروزه في سياق أزمة الحركة الماركسية اللينينية
إعلانه تبني الاشتراكية العلمية ومواقفه النقدية من لعبة النظام الديمقراطية
وجوده داخل حزب له هيمنة في الساحة الجماهيرية ( الكونفدرالية واتحاد الطلبة … )
الا أن الأزمة الحادة التي تخبطت فيها الحركة الماركسية اللينينية جعلتها عاجزة عن التأثير على نحو إيجابي في مناضلي اليسار الاتحادي . واقتصرت العلاقات بين تيار "القاعديين" و تيار "رفاق الشهداء" في الساحة الطلابية على قضايا هذه الساحة دون طرح إشكالية بناء الحزب الثوري على بساط النقاش. هذا فضلا على عصبوية اليسار الاتحادي التي يلخصها اعتباره لنفسه " استمرارا لحركة التحرير الشعبية " .
لم يدع هذا التيار أبدا انه بديل عن الاتحاد الاشتراكي بل انطلق دوما من تراثه مدافعا عنه بوجه " خيانة قياداته اليمينية " .ان الاتجاه السائد في الحزب هو الذي تطور نحو اليمين اكثر مما اتجه المنتقدون نحو اليسار .كل هذا جعل هذا التيار طرفا مكملا للاتحاد الاشتراكي يستمد جذوره من نقد سطحي لمواقف هذا الحزب أي مجرد ظل على يساره . ويمكن إجمال تميز الظل عن الأصل في :
اولا : تبني الاشتراكية العلمية
ثانيا: بناء الحزب الثوري استنادا على الرصيد النضالي
ثالثا: الانسحاب من المؤسسات التمثيلية ومقاطعتها
أولا: الاشتراكية العلمية
ورد تعبير الاشتراكية العلمية باستمرار خلال مسيرة الحزب منذ بداياته الشعبوية لكن دون مضمون واحد محدد . فقد جاء في وثيقة الاختيار الثوري لبنبركة بمضامين وطنية شعبوية لا تتجاوز إنجاز مهام التحرر الوطني . ثم عاد ليطفو بنبرة ماركسية في سياق تمركس أحزاب البرجوازية الصغيرة في المنطقة العربية بعد هزيمة 1967 . ( آنذاك انشقت حركة 23 مارس )
وفي المؤتمر الاستثنائي حافظ تيار بوعبيد على التعبير للتحرر دون مشاق من الشعبوية والانتقال تدريجيا الى خط ليبرالي .
لم تتجاوز اشتراكية اليسار الاتحادي أبجدية التحليل الطبقي ، موسوم بتبسيطية مفرطة ، دون ان يكلف نفسه عناء تمييزها عن اشتراكية علي يعته العلمية هي الأخرى وباقي أنواع "الاشتراكيات العلمية" في الساحة السياسية المغربية . ولم تأت وثيقة المؤتمر الرابع لحزب الطليعة (1993) بجديد رغم الأسئلة الكبرى التي طرحها انهيار الأنظمة البيروقراطية على كل منتسب الى الاشتراكية . ودون تقديم أي تفسير طبقي ، بل فتات أفكار منتقاة دون تماسك. ادعت الوثيقة ان "حزبنا كان له في الماضي نظرة واعية ونقدية حول طبيعة تلك الأنظمة" . ورغم فك ارتباطه بالاتحاد الاشتراكي لم يوضح حزب الطليعة موقفا من ديكتاتورية البروليتاريا وشكل السلطة العمالية ، هذه المسألة الأساسية التي رسمت حدا فاصلا بين الماركسية الثورية وشتى تنويعات الإصلاحية ، ومع ذلك لا يجد الطليعيون حرجا في ادعاء تبني الماركسية .
ورغم الوعد بـ" توضيح اختيار الحزب للاشتراكية العلمية " و " القضاء على كل انواع التحريفات والانتقائية الى سقط فيها التقرير الأيديولوجي للاتحاد الاشتراكي" اكتفت الوثيقة المذكورة بالإسهاب في ترديد السجال السطحي السابق مع الاتحاد الاشتراكي حول تبني الاشتراكية العلمية ( وثيقة خط النضال الديمقراطي والخط الانتخابي-1982 ).
ولا طائل من البحث لدى حزب الطليعة عن إجابة على مسألة طبيعة الثورة بالمغرب حيث تتداخل المهام الديمقراطية والمهام الاشتراكية ، فبلبلته الفكرية لم تسمح بعد حتى بطرح السؤال .
ثانيا : مسألة بناء الحزب الثوري :
ظل اليسار الاتحادي متمسكا بفكرة تثوير الحزب الشعبوي وبعد تفكك هذا الأخير وتشكل حزب ليبرالي على أنقاضه أصروا على تثويره هو الآخر. وبعد ان أدوا ثمن أوهامهم ما زالوا مصرين على بناء حزب ثوري بأفكار ليست غير حطام إفلاس الشعبوية والإصلاحية الليبرالية .
ويسد اليسار الاتحادي على غيره باب العمل على بناء الحزب الثوري بمبرر انفراده برصيد نضالي يؤهله لتلك المهمة التاريخية (استمرار حركة التحرير الشعبية).
المقصود بالرصيد النضالي تلك التجارب التي خاضها الشعبويون الراديكاليون في تنظيم أعمال مسلحة بمعزل عن الحركة الجماهيرية . وهي التجربة التي لم ينتقدها بعد حزب الطليعة نقدا ماركسيا مكتفيا بتلميحات مبهمة حول الانقلابية ، متعاملا بانتهازية مع تراث الحزب : استعماله لكسب تعاطف الشباب التواق الى النضال بديلا عن نظرية وخط سياسي ثوريين .
لقد جرى إهدار طاقات كثيرة جريا وراء وهم التثوير منذ مذكرة عمر بنجلون سنة 1965 الداعية الى "تحويل الحركة من تيار شعبي مائع الى حزب ثوري منظم حسب المقاييس العلمية التي برهنت التجربة العالمية على صحتها " إذ أنها اختزلت بناء الحزب الثوري في تطبيق وصفات تقنية وبالأخص خلايا المنشآت والمركزية الديمقراطية ، هذا علما ان فهم حزب الطليعة لهذه الأخيرة ظل أسير المفاهيم الستالينية .
ثالثا : الانسحاب من المؤسسات التمثيلية ومقاطعتها
كان التمسك بالمطالبة بتنفيذ قرار اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي سنة 1979 بالانسحاب من البرلمان والمجالس المحلية المسألة التي تمحور عليها الصراع بين التيار المسيطر في قيادة الحزب والتيار اليساري .
ورغم الضجة التي أثارها اليسار الاتحادي بصدد هذا الأمر فانه يفتقر الى رؤية مغايرة لاستراتيجية الحزب الإصلاحي البرجوازي . فكل ما يقوله هذا التيار بشأن ارتباط الديمقراطية بالاشتراكية هو نفس الخط الليبرالي الوارد في أدبيات مؤتمر 1975 . وأقصى ما بلغته مواقفه هو التلميح أحيانا الى مقررات المؤتمر الثالث التي نادت بتحويل الملكية الرئاسية الى برلمانية يحوم فيها الملك فوق الأحزاب والطبقات . هذا المطلب رفعه الاتحاد الاشتراكي آنذاك فواجهته الاتوقراطية برفض صارم ( منعت حتى نشر نص بيان المؤتمر ) فسكت عنه وتبناه تيار اليسار قبل ان يتطور موقفه نحو شعار الجمعية التأسيسية لكن خارج أي منظور استراتيجي للثورة المغربية . فقد كانت الجمعية التأسيسية شعار الحركة الشعبوية في السنوات الأولى للاستقلال حتى بداية سنوات 70 ( بيان 8 أكتوبر 1972 ) ، ومن منظور بورجوازي محض ، ومن ثمة استمده حزب الطليعة وليس من فهم إجمالي للمهام الديمقراطية ولطبيعة المطالب اللازمة لقيادة الشغيلة والكادحين كافة نحو إطاحة سلطة الرأسمال واقامة سلطتهم المجالسية .
ان عدم استناد اليسار الاتحادي على نظرية محددة وتعويضها بانتقائية سطحية جعلته يسير في مسألة الديمقراطية في ذيل الأحزاب البرجوازية ناسخا فقرات من برنامجها : فصل السلطات ، مراجعة الدستور ، حكومة منبثقة من البرلمان ، الخ
وقد اختص حزب الطليعة في مقاطعة الانتخابات معتقدا بثورية ذلك الموقف . لكنها مقاطعة لا تتجاوز دعوة الجماهير الى الاستنكاف السلبي ، استنادا الى اعتبارات غير ماركسية بأي وجه . فمتى كان مبرر التزوير حجة لدى الماركسيين الثوريين لمقاطعة الانتخابات ؟ ألم يشارك البلاشفة في اشد البرلمانات رجعية وتزويرا ؟ أيجهل الطليعيون أن الانتخاب الى دوما القيصر كان يتم بتزوير مكرس بالقانون دون أن يمنع ذلك الثوريين من المشاركة فيها عندما يشهد نضال الجماهير جزرا .
بدل تحليل الشروط التاريخية ، وبالأخص شروط النضال ، يحلو للناطق الرسمي باسم حزب الطليعة ان يردد : "الأحداث ما فتئت تؤكد صحة تحاليل حزب الطليعة وسلامة مواقفه الداعية الى مقاطعة مسلسل التزوير جملة وتفصيلا ." ويصر على مقاطعتها مستقبلا موضحا " سبب المقاطعة هو الاقتناع ان الانتخابات ستكون مزورة " احمد بنجلون لجريدة العمل الديمقراطي 14 نوفمبر 2001
كما انفرد حزب الطليعة بالدعوة الى" جبهة وطنية للنضال من اجل الديمقراطية " و وجه الدعوة للاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ، وربما حتى حزب الاستقلال ، دون أدنى تساؤل عن طبيعة تلك الأحزاب وحقيقة نزعتها الديمقراطية ، ولا عن الموقف الماركسي من المعارضة الليبرالية وشروط بناء قطب ديمقراطي .
لم يكن لتلك الدعوة أي نتيجة، وظل الحزب على مواقفه حتى 2007 حيث قرر المشاركة في الانتخابات والتحالف مع مكونات من اليسار الإصلاحي ، الحزب الاشتراكي الموحد وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي.
يتبع في العدد المقبل