فريد الحداد، الثاني من اليمين في الصف الأمامي (أرشيف لحسن صبير)
عبد العزيز الطريبق؛ السبت فاتح فبراير 2014-
سافرت مرارا لطنجة منذ “عودتي إلى الحياة” ذات نهاية دجنبر 1986، لزيارة العائلة أو للعمل أو للتنزه بعيدا عن روتين تطوان، لكن زيارة يوم 1 فبراير 2014 لهذه المدينة كانت بطعم آخر، طعم الماضي… الماضي الذي قادني لإلقاء نظرة أخيرة على جثمان الرفيق والصديق فريد الحداد الذي وافته المنية، يوم الثلاثاء 28 يناير 2014 ببلجيكا، والذي دفن كأي طنجاوي قح بمدينته الأصلية/ طنجة…
والماضي الذي مر لدي، في إحدى صفحاته الحاسمة، من طنجة، منذ 41 سنة خلت في إحدى أيام فبراير 1973 الممطرة… القاسم المشترك بين الزيارتين هو الرفيق والصديق العزيز مصطفى التمسماني. ففي سبت الجنازة الممطر هذا كان مصطفى هو مقصدي، مرة أخرى، ومرشدي للمقبرة حيث يودع جثمان فريد الثرى.
منذ 41 سنة قصدت طنجة بحثا عن مصطفى ليكون مرشدي نحو “الرفاق”! وقتها كنت قد عدت إلى تطوان بعد سنة طلابية حافلة بالأحداث السياسية الكبرى، انتهت بحل النقابة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وبإغلاق كلية الآداب حيث كنت أدرس… البقاء في الرباط لم يعد له معنى، آنذاك، مع إغلاق الكلية و”حالة الطوارئ” التي كانت تعيشها المدينة من تربص بطلبة “الجبهة” على الأخص، وكنت وقتها قد اعتقلت مرتين، الأولى إثر تطويق الحي الجامعي مع حوالي 200 طالب وطالبة، ودامت ليلة واحدة، تظاهرنا خلالها في قبو كوميسارية الرباط الرهيب فأطلق سراحنا في الصباح. ثم الثانية بعد حل أوطم، في يناير 1973، وقد اعتقلت بعد “مطاردة هتشكوكية” ودام الاعتقال لمدة 4 أيام… لم يكن بالإمكان، إذن، البقاء في الرباط، فعدت لتطوان بين أهلي.
لكن “حماسي النضالي” لم يفتر فاستأنفت اجتماعاتي مع بعض الأنوية التلاميذية بتطوان، وبعد مدة أصبح من الضروري أن أربط الاتصال ب”الرفاق بحثا عن “التوجيه”… كنت مجرد مناضل مبتدئ، وكنت أجهل كل شيء عن المنظمات الماركسية-اللينينة” السرية التي تتحكم في “الجبهة” وتقودها، رغم إدراكي لوجود تنظيم سياسي وراء “الجبهة”… فقصدت طنجة للبحث عن الرفيق مصطفى الذي كنت أعرف فقط أنه يقطن بحي “المصلى”… وحي المصلى لمن لا يعرفه “مسالك مسالك” (كما يقول نجم ويغني إمام)، دروب ضيقة وملتوية بمنطق لا يعرفه سوى سكان الحي… كنا في أواخر فبراير وكان الجو ممطرا وبحثي عن مصطفى مضني لجهلي بعنوانه… حماس وإصرار الشباب هو الذي جعلني أومن بصدفة عجيبة تحل “مشاكلي”… فكان أن حصلت الصدفة المرجوة، إذ وجدت نفسي فجأة وأنا وسط درب من الدروب، أمام نسخة طبق الأصل من مصطفى (مع متغيرات بدنية ملحوظة)! لم أتردد، قصدت الشخص قائلا: “أنت أخ مصطفى؟”، فأجابني بنعم لأطلب منه إلحاقي به للتو واللحظة.
“إلى الأمام”!
هكذا انطلق مساري مع “الرفاق”، وكانت الفترة فترة انفراط عقد “الجبهة” وممارسة كل تنظيم ماركسي-لينيني لسياسته الخاصة، فظهرت منظمة “23 مارس” (وكانت تسمى منظمة “ب” قبل ذلك) ثم ظهرت “إلى الأمام” (“أ”) في السابق، إضافة إلى “لنخدم الشعب” (“الفصيل الثالث”)… بعد فترة من “التدريب” (كنت أجهل أنه “تدريب”) قرر “الرفاق” إلحاقي بالمنظمة السرية، وكانت هي “إلى الأمام” (التي كان مصطفى إطارا بها)، فأصبحت عضوا في خلية مشرفة على منطقة الشمال وتضم كل من مصطفى و”الروخو” السريفي و”مجيدو” اليسري!
لم أعد، إذن، مجرد مناضل “مبتدئ” بل صرت “رفيقا” أطلع على نشرات المنظمة المركزية المتضمنة لإستراتيجيتها وتوجيهاتها وكبرت مسؤولياتي التنظيمية بتطوان… لا داعي هنا للدخول في تفاصيل العمل النضالي اليومي… أتذكر من تلك الأيام، فقط، اجتماعات الخلية في غابة الرميلات، بجبل الكبير بطنجة، حيث كان البحر الممتد أمامنا لا يسع كل طموحاتنا “الثورية” وكانت الطبيعة الخلابة حولنا لا تصرف انتباهنا عن “مهامنا النضالية العاجلة”، بينما كان زادنا يتكون غالبا من خبز وحليب وبعض العنب…
صيف 1974 كان ساخنا بكل المقاييس حيث صعدت المنظمة من عمليات توزيع المناشير “الحارقة”، بطنجة، لتتعبأ مختلف الأجهزة الأمنية مركزيا ومحليا من أجل القضاء على هذا “الوافد السياسي الجديد” والمزعج! فسقط في شباك الأمن العديد من مناضلي المنظمة وتمكن بعضهم من الإفلات والانتقال إلى السرية مع تغيير المنطقة (ومن بينهم أنا حيث انتقلت إلى الدار البيضاء وعشت فيها بهوية أخرى لمدة سنة ونصف تقريبا)…
وها أنذا أعود لطنجة بحثا عن مصطفى، مرة أخرى، وفي يوم ممطر من شهر فبراير 2014… هذه المرة لتوديع فريد الحداد إلى مثواه الأخير، وهو مناضل شاب، وقتها، اعتقل خلال حملة ثانية (أواخر 75-بداية 1976)… نكاد لا نصدق وفاة فريد الحداد، فسنه صغير بالقياس مع سننا، لكن مرض السكري لم يرحمه! فريد كان إنسانا بسيطا بدون تعقيدات، هادئ الطبع، رغم ما كان يعتمل بدواخله جراء حكم قاس ب10 سنوات سجنا وجراء معاناته كشاب محروم من الحرية، منضبط ومناضل عنيد شارك في كل الإضرابات المطلبية عن الطعام (ومنها إضراب 45 يوما)… فريد فقد أعز شخص لديه، أمه، بعد 6 سنوات من السجن وتحمل الصدمة برباطة جأش كبيرة جعلت الجميع يتعاطف معه هناك… لم ألتق فريد منذ مغادرته السجن، قبلي، في متوسط الثمانينات، لكنني احتفظت له بمكانة خاصة في وجداني وآلمتني وفاته كثيرا وهو في بلجيكا حيث اضطرته ظروف الحياة للعيش…
جنازته كانت مناسبة لتعزية العائلة وللالتقاء بالعديد من الرفاق الأعزاء وقد جمعتنا معا “أوديسية” حقيقية، خرجنا منها بتقدير ومودة لا يغير منهما البعد الجغرافي والاجتماعي… عبد الباري الطيار، ومصطفى بنسعيد، والبشير الزناكي، مصطفى بوقرطاس، ومحمد اعزيبو، ومصطفى التمسماني من طنجة، ومحمد الأمين مشبال ومحمد امغاغا من تطوان إضافة إلى العبد الضعيف، وصلاح الدين الوديع الذي قدم في رحلة مكوكية من الدار البيضاء، ووجوه أخرى لمناضلين أفلتوا من السجن… الشيب غزا مفرق الجميع والسؤال الأول يدور طبعا حول الصحة… ومن جميل الصدف أن السماء الممطرة توقفت عن إرسال سيلها طوال فترة الدفن والعزاء الذي يتلوها!
وكم كانت مؤثرة تلك اللحظة الأخيرة التي أبى فيها أفراد عائلة المرحوم فريد إلا أن يصافحوننا واحدا بواحد، بعد الجنازة، لنفترق ونحن نتقاسم نفس الحزن، فقدان مناضل شعبي بسيط وعميق في سلوكه وتضحيته!