ايكس ليبان : المؤامرة الكبرى في تاريخ المغرب
حين نعود إلى التاريخ فليس من أجل تمضية الوقت، بل من أجل فهم الواقع الذي نعيشه اليوم لأنه وليد الأمس، وبالتالي لاستشراف آفاق المستقبل. وفي هذا المقال اخترت أن أتناول محطة هامة في تاريخ المغرب المعاصر هي إعلان الاستعمار الجديد ابتداء من 2نونبر1955م.
خلال هذا التاريخ كانت القوى الاستعمارية عامة توجد في وضع دولي عرف نجاح ثورة أكتوبر بروسيا وإعلان الاتحاد السوفيتي كقوة دولية عظمى تدعم حركات التحرر الوطني ولها جاذبية خاصة لمعارضي الامبريالية في العالم -وهذا الواقع لاستطيع أحد تغطيته بالأخطاء التي تلت وفاة لينين- وعرف أيضا نجاح الثورة الصينية سنة1949 وماثلا ذلك من تأثير ايجابي على الشعوب التي كانت تقاوم الاستعمار.
أما القوى الأوربية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية 1939-1945 منهكة بعد هزيمة النازية، فقد وجدت نفسها أمام تهديد حقيقي على حدودها بعد دخول القوات السوفيتية برلين سنة 1945 وإعلان حلف الاتحاد السوفيتي (بلغاريا، هنغاريا، رومانيا، تشيكوسلوفاكيا، ويوغسلافيا) وما أصبح يمثله ما أطلق عليه المد الشيوعي، من خطر على وجودها. هذا الواقع أصبح فيه التواجد المباشر في المستعمرات مكلفا للامبريالية، وإذا أضفنا إليه هزيمة الجيش الفرنسي في معركة ديان بيان فو في الفيتنام ماي1955 التي لم يسبق أن عرفتها خلال تاريخها الاستعماري، وإعلان الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الوطني في الجزائر ابتداء من 1954، وتزايد الغضب الشعبي الذي بدا جليا في عدة مناسبات أبرزها 20غشت1955، نفهم السبب وراء الإسراع بفتح مفاوضات ما سمي استقلال المغرب. هذه العوامل دفعت الاستعمار الفرنسي بشمال إفريقيا إلى اعتماد خطة جديدة تقضي بفتح مفاوضات في تونس والمغرب مع حلفاء محليين لبناء نظام سياسي يحفظ مصالحه هناك، وتركيز القوة العسكرية بالجزائر كانت إمكانية نجاح حلفاء محليين شبه منعدمة بالنظر للتعاطف الشعبي الكبير لدى جبهة التحرير الوطني ولقوتها العسكرية المتزايدة. ولإجهاض تنامي خلايا المقاومة وإيقاف القوة المتزايدة لجيش التحرير حضر الاستعمار الفرنسي مفاوضات ايكس ليبان التي حضرها من الجانب المغربي ممثلون عن حزب الاستقلال، حزب الشورى والاستقلال وممثلون للسلطان وقواد الاستعمار في غشت-شتنبر1955.
دامت المفاوضات ثلاثة أيام ثم الاتفاق فيها على رجوع محمد الخامس من مدغشقر وإعلان "نية" فرنسا في منح المغرب "استقلالا" في 2نونبر1955 (déclaration de celle saint clout)،إلا أن تفاصيله ستحدد فيما بعد من الإعلان المشترك والبروتوكول الملحق به في 2مارس1956. بهذا الاتفاق سيتم التنازل من طرف الامبريالية الفرنسية على قسط صغير من الثروات التي تسرقها من المغرب لصالح البرجوازية التي نشأت في حضنها بالبلد كي تستطيع تأمين الجزء الأكبر، وستسهر على بناء نظام سياسي على مقاسها إلى اليوم مازال يقوم بهذا الدور. النجاح الفرنسي في هذه المهمة شجع الاستعمار الاسباني على توقيع اتفاق 2أبريل1956 مع محمد الخامس للانسحاب من شمال المغرب.
الوفود المغربية وأن كانت في الظاهر تمثل حساسيات مختلفة، فإنها في الواقع فاوضت باسم طرف سياسي واحد هو ما يمثله محمد الخامس، وهو ما رسم منذ ذلك التاريخ معالم المغرب الجديد بالنسبة للحاضرين إلى ايكس ليبان نيابة عن حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال لم يفاوضوا كممثلين لحركة سياسية تمثل الشعب المغربي ومقاومته ولم يوقعوا أي اتفاق تحت هذا العنوان، بل أن الإعلان المشترك جاء في ديباجته انه بين حكومة جمهورية فرنسا وسلطان المغرب محمد الخامس. وهذا كان له انعكاس مباشر في بنية النظام السياسي من البداية، بحيث سينص هذا الإعلان في أول نقطة على أن السلطة التشريعية يمارسها السلطان، وكل ما جاء فيه عبر على انه ليس استجابة لمطلب عادل هو الاستقلال، بل تجديد الاعتراف المتبادل بين السلطان والاستعمار. فإذا كانت معاهدة 30مارس1912 جاءت بطلب من السلطان يوسف العلوي بعدما حاصرته القبائل المجاورة لفاس، وأصبحت معظم مناطق البلاد خارج سيطرته، فان بإعلان 2مارس1956 نص على أن الفترة الفاصلة بين التاريخين، مرحلة أنجز من خلالها المغرب تقدما لم تعد المعاهدة المذكورة بعده صالحة لتنظيم العلاقات الفرنسية المغربية. هذا التقدم لا يعني في الواقع بالنسبة للطرفين سوى تدمير القوة العسكرية للقبائل المغربية ومقاومتها التي دامت حتى سنة 1934، وغياب التهديد الفعلي الذي كان قائما بالنسبة للنظام المركزي. ولا يعني سوى انتزاع أجود الأراضي المغربية بالقوة من طرف المعمرين والقواد الذين يدينون بالولاء للسلطان وللاستعمار في نفس الوقت. هذه الأراضي التي كانت تشكل مصدر قوة اقتصادية في أيدي أعدائهم، وتملكوها بعد صدور قانون التحفيظ العقاري سنة1913. هذا التقدم لا يعني كذلك سوى بناء الطرق المعبدة والسكك الحديدية التي تصل الموانئ بمختلف مواقع استخراج الفوسفاط وباقي المعادن الطبيعية ومواقع استغلال الثروة الغابوية لتأمين استنزاف هذه الثروات لصالح المستعمر... لهذا فوثيقة تعترف بشرعية معاهدة استعمارية لا يمكن أن تجلب الاستقلال. فهذا الإعلان المشترك لا يعدو كونه وثيقة استعمارية جديدة، مهدت لاتفاقات جديدة لاستغلال البلد. وكما جاء في نصه(أي الإعلان المشترك) بأن مفاوضات ستجمع في باريس بين المغرب وفرنسا هدفها توقيع اتفاقيات جديدة لتنظيم العلاقات بين البلدين في مجالات المصلحة المشتركة أساسا: الدفاع، العلاقات الخارجية، الاقتصادية، والثقافية، والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا! الوفد المغربي إن كان حقا يمثل حركة وطنية، كان عليه أن يبحث حقوق المغاربة المقيمين في المغرب قبل أن يبحث حقوق المغاربة المقيمين في الخارج، والذين اغتصبت حقوقهم ابتداء من1912 على الأقل من طرف الاستعمار، وأصبحت بفعل القوانين التي سنها ابتداء من ذلك التاريخ حقوقا للفرنسيين المقيمين في المغرب أو بعضهم. ولأن استرداد هذه الحقوق المغتصبة لن يتم إلا بضرب حقوق الفرنسيين المستعمرين بالمغرب، فان هذا الوفد "الوطني جدا"! التزم بحماية هذه الأخيرة وضمانها. هذه الحقوق المغتصبة التي أصبحت مصالحا فرنسية، فان الاستعمار لم يضمنها بحسن نوايا النظام الوليد، بل نص الإعلان المشترك أنه خلال الفترة الانتقالية وفي انتظار توقيع الاتفاقيات الجديدة بين الطرفين وبناء المؤسسات الجديدة، لن يتم المس بوضعية الجيش الفرنسي، وأن الجيش الذي سيتوفر عليه سلطان المغرب سيتم تشكيله برعاية فرنسية. أما الفقرة الأولى من البروتوكول الملحق ففرض من خلالها الاطلاع على جميع مشاريع الظهائر والمراسيم من طرف ممثل فرنسا بالمغرب لأجل وضع ملاحظاته على النصوص لما يتعلق الأمر بالمس بمصالح فرنسا والفرنسيين أو الأجانب خلال الفترة الانتقالية. ولكم أن تتخيلوا النهاية عندما لا تؤخذ هذه الملاحظات على محمل الجد والبندقية على رأس من تعنت...
في نفس الوقت لذي وقع فيه الطرفين الفرنسي والمغربي على الإعلان المشترك والبرتوكول الملحق، سيرفع النظام الوليد ممثلا في حكومته برئاسة مبارك البكاري أربعة رسائل تحمل طلبات لنظيرتها الفرنسية، وسيتسلم في نفس اليوم أربعة رسائل جوابية بالموافقة. وكانت الرسالة الأولى أصدقها تعبيرا عن المسار الذي سيتخذه النظام اللاوطني بالمغرب، بحيث أنها تطلب من الحكومة الاستعمارية الفرنسية الاستمرار في تسيير العلاقات الخارجية للمغرب وتمثيل وحماية المواطنين المغاربة ومصالحهم في الخارج حتى الاتفاق عل إجراءات جديدة! إذا كان الاستعمار الفرنسي بهذا الحنان على المغاربة وفي موقع يسمح بتأمينه على مصالحهم ولو لفترة من الزمن، ما كان الشعب المغربي ضحى بكل ما يملك وبأرواح أبنائه الشهداء من أجل أن يرحل عن الوطن.
وما أن خرج النظام الجديد إلى الوجود حتى فتل عضلاته بمختلف أجهزة القمع ومختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة وبدعم القواعد العسكرية للإمبريالية، وبدأ بتنظيم جلسات المحاكمة لأعضاء المقاومة وجيش التحرير اللذين رفضوا تسليم السلاح للأعداء، وبنى المقابر-المخافر السرية والعلنية (دار بريشة، دار المقري...) لإعدامهم ودفنهم، وتوج فرحتهم بالمجازر الرهيبة التي قادها ولي العهد آنذاك الحسن الثاني سنوات1958-1960. وبقيت آلة التعذيب والتقتيل تشتغل بوثيرة أكبر كلما زاد حجمها وقدرتها في وجه كل من تجرأ على خدش مساحيق التجميل التي وضعتها وسائل الدعاية على خدوده. وفي نفس الوقت زاد حجم المصالح الإمبريالية التي تعهد بحمايتها ببلادنا منذ ذلك التاريخ، وبقيت القوى الاستعمارية الفرنسية تحتل الصدارة متبوعة بالاسبانية في هذه المصالح.
إذا كان هذا هو حال بداية النظام القائم بالمغرب في خمسينات القرن الماضي، فلا يجب أن نستغرب اذا كانت حاليا فرنسا هي أول من يطلع على مشروع الحكم الذاتي في الصحراء الغربية قبل حتى الأحزاب الوفية للنظام، ولا نستغرب برمجة الانتخابات النيابية بالمغرب بعد الانتخابات الرئاسية بفرنسا وتلقي الأوامر من الحكومة المركزية هناك عن الأحزاب المرغوب فيها والمغضوب عليها، ولا نستغرب اذا كان رئيس فرنسا ساركوزي يؤجل زيارته للمغرب إلى ما بعد الانتخابات حتى يستقبل من طرف الوجوه التي لا يتحفظ عليها...
عبد الكريم الخطابي إلى الشعب المغربي: إكس ليبان فخّ منصوب
محمد أمزيان هسبريس : 23 - 02 - 2008
منذ نزول الأمير محمد عبد الكريم الخطابي في القاهرة سنة 1947، لم يستكن إلى الراحة والعيش على ذكريات مقاومته للاستعمارين الإسباني والفرنسي، بل إن بيته أصبح مزارا يقصده المناضلون والسياسيون والزعماء من كل الجنسيات والمشارب. كما أنه لم "يتقاعد"، رغم سنه المتقدم، عن مواصلة العمل بهدف جلاء الاستعمار عن شمال إفريقيا جلاءا تاما دون شروط أو قيود. ويتذكر قادة جيش التحرير الميدانيين سواء في المغرب أو الجزائر أو تونس، مدى حرص عبد الكريم الخطابي على توحيد المعارك في الأقطار الثلاثة لتوسيع جبهات القتال، وفي نفس الوقت لتنبيه الغافلين إلى الدسائس الاستعمارية التي كانت تهدف إلى إحداث شروخ في العملية التحريرية عن طريق إغراء بعض السياسيين ودفعهم إلى الانخراط في ما كان يسمى بالمفاوضات السياسية، وأشهرها مباحثات إكس ليبان. بطبيعة لم يكن الخطابي يملك حزبا أو جيشا أو قناة رسمية يوقف بها تلك المباحثات. ولكنه كان يمتلك ضميرا يقظا وجرأة في قول ما كان يراه صائبا، ولم يكن يتوانى عن التعبير عن آرائه عبر الوسائل المتاحة آنذاك وكأنه يبعث برسائل مفتوحة إلى التاريخ.
إحدى تلك الرسائل نشرتها صحيفة "كفاح المغرب العربي" التي كان يصدرها أنصار جيش التحرير في المغرب العربي من دمشق، بتاريخ 7 يناير 1956 تحت عنوان: "بطل الريف يحذر المتخاذلين ويدعو الشعب لمتابعة النضال". ومن أجل تعميم الاستفادة أعيد نشر نداء الخطابي كما نشرته تلك الصحيفة دون أي تغيير، باستثناء ما أضفته من فواصل ونقط لتسهيل عملية القراءة. وهذا نص النداء:
أيها الإخوان
إن الظروف قد حتمت علينا أن نوجه إليكم هذا النداء حتى لا يفوت الأوان. هناك جماعة متضامنة من المستغلين تتربص بكم الدوائر وتريد أن توقعكم من جديد في قبضة الاستعباد بعدما حملتم أسلحتكم وأدركتم ما يجب عليكم أن تفعلوه لأخذ حريتكم واستقلالكم.
هذه الجماعة قد باعت الكرامة والشرف والوطن وسلمت البلاد لطائفة قليلة من المستعمرين بثمن بخس، هي تلك المناصب الزائفة الحقيرة المهينة. وقد سبق أن عملت مثل هذه الفئة في تونس فسودت تاريخ هذا البلد المسكين، لولا أن قيض الله في الآونة الأخيرة لها رجالا لم يرضوا بتلك المهانة وصاروا يحاربون الاتفاقية اتفاقية الخزي والعار. ويمكننا أن نقول إن تونس اليوم ثائرة على الذين سلموا بلادهم وماضية في محو العار، وهي بلا شك ناجحة بإذن الله لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وكل ما كان أبرم بواسطة جماعة دعاة الهزيمة وعشاق المناصب قد انهار تماما، وسوف ينهض التونسيون لاستئناف الكفاح في الوقت اللائق والمناسب. إن الشعب الفرنسي ليس في نيته أن يحارب مرة أخرى ليخلق هند صينية جديدة في شمال إفريقيا.
وقد اقتدت جماعة الرباط بجماعة تونس المستسلمة فأبرزت اتفاقية إكس ليبان إلى حيز العمل والتنفيذ، وأخذت تناور وتدلس وتغري الشعب المراكشي [المغربي] بالكلام المعسول. وهي سائرة في نفس طريق اتفاقية تونس وستطالب المناضلين بإلقاء السلاح،بعدما طلبت منهم الهدوء بحجة أن المفاوضة لا تكون إلا في الهدوء، والهدوء لا يكون إلا بإلقاء السلاح وتسليمه لهذه الجماعة الرباطية الجالسة على عروشها حين يتفرغ الأعداء للقضاء على الجزائر. فحذار من السقوط في الفخ المنصوب، وإننا على يقين من أن الشعب المغربي سوف يستمر في الكفاح والنضال إلى أن يخرج من بلاد المغرب بل من شمال إفريقيا كلها آخر جندي فرنسي يحمل السلاح من جماعة المستعمرين.
أيها الإخوان
دعاة الهزيمة موجودون في الأقطار الثلاثة من بلادنا، فلا يجوز بأي حال من الأحوال بأن يسمح لهم أن يثبطوا من عزائمنا أو يوهنوا من عقيدتنا في الكفاح الشريف. فالنصر حليف المناضلين في سبيل الحق.
وإننا لا نريد أن تفوت هذه الفرصة من غير أن نلفت نظر الشعب الفرنسي إلى أن إهدار كرامة الشعوب ليس من شيم الأمم المتمدنة، ولا من خصال المؤمنين بالأديان السماوية .. وبالله التوفيق.
عبد الكريم الخطابي
Mamezian.malware-site.www ""
حين نعود إلى التاريخ فليس من أجل تمضية الوقت، بل من أجل فهم الواقع الذي نعيشه اليوم لأنه وليد الأمس، وبالتالي لاستشراف آفاق المستقبل. وفي هذا المقال اخترت أن أتناول محطة هامة في تاريخ المغرب المعاصر هي إعلان الاستعمار الجديد ابتداء من 2نونبر1955م.
خلال هذا التاريخ كانت القوى الاستعمارية عامة توجد في وضع دولي عرف نجاح ثورة أكتوبر بروسيا وإعلان الاتحاد السوفيتي كقوة دولية عظمى تدعم حركات التحرر الوطني ولها جاذبية خاصة لمعارضي الامبريالية في العالم -وهذا الواقع لاستطيع أحد تغطيته بالأخطاء التي تلت وفاة لينين- وعرف أيضا نجاح الثورة الصينية سنة1949 وماثلا ذلك من تأثير ايجابي على الشعوب التي كانت تقاوم الاستعمار.
أما القوى الأوربية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية 1939-1945 منهكة بعد هزيمة النازية، فقد وجدت نفسها أمام تهديد حقيقي على حدودها بعد دخول القوات السوفيتية برلين سنة 1945 وإعلان حلف الاتحاد السوفيتي (بلغاريا، هنغاريا، رومانيا، تشيكوسلوفاكيا، ويوغسلافيا) وما أصبح يمثله ما أطلق عليه المد الشيوعي، من خطر على وجودها. هذا الواقع أصبح فيه التواجد المباشر في المستعمرات مكلفا للامبريالية، وإذا أضفنا إليه هزيمة الجيش الفرنسي في معركة ديان بيان فو في الفيتنام ماي1955 التي لم يسبق أن عرفتها خلال تاريخها الاستعماري، وإعلان الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الوطني في الجزائر ابتداء من 1954، وتزايد الغضب الشعبي الذي بدا جليا في عدة مناسبات أبرزها 20غشت1955، نفهم السبب وراء الإسراع بفتح مفاوضات ما سمي استقلال المغرب. هذه العوامل دفعت الاستعمار الفرنسي بشمال إفريقيا إلى اعتماد خطة جديدة تقضي بفتح مفاوضات في تونس والمغرب مع حلفاء محليين لبناء نظام سياسي يحفظ مصالحه هناك، وتركيز القوة العسكرية بالجزائر كانت إمكانية نجاح حلفاء محليين شبه منعدمة بالنظر للتعاطف الشعبي الكبير لدى جبهة التحرير الوطني ولقوتها العسكرية المتزايدة. ولإجهاض تنامي خلايا المقاومة وإيقاف القوة المتزايدة لجيش التحرير حضر الاستعمار الفرنسي مفاوضات ايكس ليبان التي حضرها من الجانب المغربي ممثلون عن حزب الاستقلال، حزب الشورى والاستقلال وممثلون للسلطان وقواد الاستعمار في غشت-شتنبر1955.
دامت المفاوضات ثلاثة أيام ثم الاتفاق فيها على رجوع محمد الخامس من مدغشقر وإعلان "نية" فرنسا في منح المغرب "استقلالا" في 2نونبر1955 (déclaration de celle saint clout)،إلا أن تفاصيله ستحدد فيما بعد من الإعلان المشترك والبروتوكول الملحق به في 2مارس1956. بهذا الاتفاق سيتم التنازل من طرف الامبريالية الفرنسية على قسط صغير من الثروات التي تسرقها من المغرب لصالح البرجوازية التي نشأت في حضنها بالبلد كي تستطيع تأمين الجزء الأكبر، وستسهر على بناء نظام سياسي على مقاسها إلى اليوم مازال يقوم بهذا الدور. النجاح الفرنسي في هذه المهمة شجع الاستعمار الاسباني على توقيع اتفاق 2أبريل1956 مع محمد الخامس للانسحاب من شمال المغرب.
الوفود المغربية وأن كانت في الظاهر تمثل حساسيات مختلفة، فإنها في الواقع فاوضت باسم طرف سياسي واحد هو ما يمثله محمد الخامس، وهو ما رسم منذ ذلك التاريخ معالم المغرب الجديد بالنسبة للحاضرين إلى ايكس ليبان نيابة عن حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال لم يفاوضوا كممثلين لحركة سياسية تمثل الشعب المغربي ومقاومته ولم يوقعوا أي اتفاق تحت هذا العنوان، بل أن الإعلان المشترك جاء في ديباجته انه بين حكومة جمهورية فرنسا وسلطان المغرب محمد الخامس. وهذا كان له انعكاس مباشر في بنية النظام السياسي من البداية، بحيث سينص هذا الإعلان في أول نقطة على أن السلطة التشريعية يمارسها السلطان، وكل ما جاء فيه عبر على انه ليس استجابة لمطلب عادل هو الاستقلال، بل تجديد الاعتراف المتبادل بين السلطان والاستعمار. فإذا كانت معاهدة 30مارس1912 جاءت بطلب من السلطان يوسف العلوي بعدما حاصرته القبائل المجاورة لفاس، وأصبحت معظم مناطق البلاد خارج سيطرته، فان بإعلان 2مارس1956 نص على أن الفترة الفاصلة بين التاريخين، مرحلة أنجز من خلالها المغرب تقدما لم تعد المعاهدة المذكورة بعده صالحة لتنظيم العلاقات الفرنسية المغربية. هذا التقدم لا يعني في الواقع بالنسبة للطرفين سوى تدمير القوة العسكرية للقبائل المغربية ومقاومتها التي دامت حتى سنة 1934، وغياب التهديد الفعلي الذي كان قائما بالنسبة للنظام المركزي. ولا يعني سوى انتزاع أجود الأراضي المغربية بالقوة من طرف المعمرين والقواد الذين يدينون بالولاء للسلطان وللاستعمار في نفس الوقت. هذه الأراضي التي كانت تشكل مصدر قوة اقتصادية في أيدي أعدائهم، وتملكوها بعد صدور قانون التحفيظ العقاري سنة1913. هذا التقدم لا يعني كذلك سوى بناء الطرق المعبدة والسكك الحديدية التي تصل الموانئ بمختلف مواقع استخراج الفوسفاط وباقي المعادن الطبيعية ومواقع استغلال الثروة الغابوية لتأمين استنزاف هذه الثروات لصالح المستعمر... لهذا فوثيقة تعترف بشرعية معاهدة استعمارية لا يمكن أن تجلب الاستقلال. فهذا الإعلان المشترك لا يعدو كونه وثيقة استعمارية جديدة، مهدت لاتفاقات جديدة لاستغلال البلد. وكما جاء في نصه(أي الإعلان المشترك) بأن مفاوضات ستجمع في باريس بين المغرب وفرنسا هدفها توقيع اتفاقيات جديدة لتنظيم العلاقات بين البلدين في مجالات المصلحة المشتركة أساسا: الدفاع، العلاقات الخارجية، الاقتصادية، والثقافية، والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا! الوفد المغربي إن كان حقا يمثل حركة وطنية، كان عليه أن يبحث حقوق المغاربة المقيمين في المغرب قبل أن يبحث حقوق المغاربة المقيمين في الخارج، والذين اغتصبت حقوقهم ابتداء من1912 على الأقل من طرف الاستعمار، وأصبحت بفعل القوانين التي سنها ابتداء من ذلك التاريخ حقوقا للفرنسيين المقيمين في المغرب أو بعضهم. ولأن استرداد هذه الحقوق المغتصبة لن يتم إلا بضرب حقوق الفرنسيين المستعمرين بالمغرب، فان هذا الوفد "الوطني جدا"! التزم بحماية هذه الأخيرة وضمانها. هذه الحقوق المغتصبة التي أصبحت مصالحا فرنسية، فان الاستعمار لم يضمنها بحسن نوايا النظام الوليد، بل نص الإعلان المشترك أنه خلال الفترة الانتقالية وفي انتظار توقيع الاتفاقيات الجديدة بين الطرفين وبناء المؤسسات الجديدة، لن يتم المس بوضعية الجيش الفرنسي، وأن الجيش الذي سيتوفر عليه سلطان المغرب سيتم تشكيله برعاية فرنسية. أما الفقرة الأولى من البروتوكول الملحق ففرض من خلالها الاطلاع على جميع مشاريع الظهائر والمراسيم من طرف ممثل فرنسا بالمغرب لأجل وضع ملاحظاته على النصوص لما يتعلق الأمر بالمس بمصالح فرنسا والفرنسيين أو الأجانب خلال الفترة الانتقالية. ولكم أن تتخيلوا النهاية عندما لا تؤخذ هذه الملاحظات على محمل الجد والبندقية على رأس من تعنت...
في نفس الوقت لذي وقع فيه الطرفين الفرنسي والمغربي على الإعلان المشترك والبرتوكول الملحق، سيرفع النظام الوليد ممثلا في حكومته برئاسة مبارك البكاري أربعة رسائل تحمل طلبات لنظيرتها الفرنسية، وسيتسلم في نفس اليوم أربعة رسائل جوابية بالموافقة. وكانت الرسالة الأولى أصدقها تعبيرا عن المسار الذي سيتخذه النظام اللاوطني بالمغرب، بحيث أنها تطلب من الحكومة الاستعمارية الفرنسية الاستمرار في تسيير العلاقات الخارجية للمغرب وتمثيل وحماية المواطنين المغاربة ومصالحهم في الخارج حتى الاتفاق عل إجراءات جديدة! إذا كان الاستعمار الفرنسي بهذا الحنان على المغاربة وفي موقع يسمح بتأمينه على مصالحهم ولو لفترة من الزمن، ما كان الشعب المغربي ضحى بكل ما يملك وبأرواح أبنائه الشهداء من أجل أن يرحل عن الوطن.
وما أن خرج النظام الجديد إلى الوجود حتى فتل عضلاته بمختلف أجهزة القمع ومختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة وبدعم القواعد العسكرية للإمبريالية، وبدأ بتنظيم جلسات المحاكمة لأعضاء المقاومة وجيش التحرير اللذين رفضوا تسليم السلاح للأعداء، وبنى المقابر-المخافر السرية والعلنية (دار بريشة، دار المقري...) لإعدامهم ودفنهم، وتوج فرحتهم بالمجازر الرهيبة التي قادها ولي العهد آنذاك الحسن الثاني سنوات1958-1960. وبقيت آلة التعذيب والتقتيل تشتغل بوثيرة أكبر كلما زاد حجمها وقدرتها في وجه كل من تجرأ على خدش مساحيق التجميل التي وضعتها وسائل الدعاية على خدوده. وفي نفس الوقت زاد حجم المصالح الإمبريالية التي تعهد بحمايتها ببلادنا منذ ذلك التاريخ، وبقيت القوى الاستعمارية الفرنسية تحتل الصدارة متبوعة بالاسبانية في هذه المصالح.
إذا كان هذا هو حال بداية النظام القائم بالمغرب في خمسينات القرن الماضي، فلا يجب أن نستغرب اذا كانت حاليا فرنسا هي أول من يطلع على مشروع الحكم الذاتي في الصحراء الغربية قبل حتى الأحزاب الوفية للنظام، ولا نستغرب برمجة الانتخابات النيابية بالمغرب بعد الانتخابات الرئاسية بفرنسا وتلقي الأوامر من الحكومة المركزية هناك عن الأحزاب المرغوب فيها والمغضوب عليها، ولا نستغرب اذا كان رئيس فرنسا ساركوزي يؤجل زيارته للمغرب إلى ما بعد الانتخابات حتى يستقبل من طرف الوجوه التي لا يتحفظ عليها...
عبد الكريم الخطابي إلى الشعب المغربي: إكس ليبان فخّ منصوب
محمد أمزيان هسبريس : 23 - 02 - 2008
منذ نزول الأمير محمد عبد الكريم الخطابي في القاهرة سنة 1947، لم يستكن إلى الراحة والعيش على ذكريات مقاومته للاستعمارين الإسباني والفرنسي، بل إن بيته أصبح مزارا يقصده المناضلون والسياسيون والزعماء من كل الجنسيات والمشارب. كما أنه لم "يتقاعد"، رغم سنه المتقدم، عن مواصلة العمل بهدف جلاء الاستعمار عن شمال إفريقيا جلاءا تاما دون شروط أو قيود. ويتذكر قادة جيش التحرير الميدانيين سواء في المغرب أو الجزائر أو تونس، مدى حرص عبد الكريم الخطابي على توحيد المعارك في الأقطار الثلاثة لتوسيع جبهات القتال، وفي نفس الوقت لتنبيه الغافلين إلى الدسائس الاستعمارية التي كانت تهدف إلى إحداث شروخ في العملية التحريرية عن طريق إغراء بعض السياسيين ودفعهم إلى الانخراط في ما كان يسمى بالمفاوضات السياسية، وأشهرها مباحثات إكس ليبان. بطبيعة لم يكن الخطابي يملك حزبا أو جيشا أو قناة رسمية يوقف بها تلك المباحثات. ولكنه كان يمتلك ضميرا يقظا وجرأة في قول ما كان يراه صائبا، ولم يكن يتوانى عن التعبير عن آرائه عبر الوسائل المتاحة آنذاك وكأنه يبعث برسائل مفتوحة إلى التاريخ.
إحدى تلك الرسائل نشرتها صحيفة "كفاح المغرب العربي" التي كان يصدرها أنصار جيش التحرير في المغرب العربي من دمشق، بتاريخ 7 يناير 1956 تحت عنوان: "بطل الريف يحذر المتخاذلين ويدعو الشعب لمتابعة النضال". ومن أجل تعميم الاستفادة أعيد نشر نداء الخطابي كما نشرته تلك الصحيفة دون أي تغيير، باستثناء ما أضفته من فواصل ونقط لتسهيل عملية القراءة. وهذا نص النداء:
أيها الإخوان
إن الظروف قد حتمت علينا أن نوجه إليكم هذا النداء حتى لا يفوت الأوان. هناك جماعة متضامنة من المستغلين تتربص بكم الدوائر وتريد أن توقعكم من جديد في قبضة الاستعباد بعدما حملتم أسلحتكم وأدركتم ما يجب عليكم أن تفعلوه لأخذ حريتكم واستقلالكم.
هذه الجماعة قد باعت الكرامة والشرف والوطن وسلمت البلاد لطائفة قليلة من المستعمرين بثمن بخس، هي تلك المناصب الزائفة الحقيرة المهينة. وقد سبق أن عملت مثل هذه الفئة في تونس فسودت تاريخ هذا البلد المسكين، لولا أن قيض الله في الآونة الأخيرة لها رجالا لم يرضوا بتلك المهانة وصاروا يحاربون الاتفاقية اتفاقية الخزي والعار. ويمكننا أن نقول إن تونس اليوم ثائرة على الذين سلموا بلادهم وماضية في محو العار، وهي بلا شك ناجحة بإذن الله لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وكل ما كان أبرم بواسطة جماعة دعاة الهزيمة وعشاق المناصب قد انهار تماما، وسوف ينهض التونسيون لاستئناف الكفاح في الوقت اللائق والمناسب. إن الشعب الفرنسي ليس في نيته أن يحارب مرة أخرى ليخلق هند صينية جديدة في شمال إفريقيا.
وقد اقتدت جماعة الرباط بجماعة تونس المستسلمة فأبرزت اتفاقية إكس ليبان إلى حيز العمل والتنفيذ، وأخذت تناور وتدلس وتغري الشعب المراكشي [المغربي] بالكلام المعسول. وهي سائرة في نفس طريق اتفاقية تونس وستطالب المناضلين بإلقاء السلاح،بعدما طلبت منهم الهدوء بحجة أن المفاوضة لا تكون إلا في الهدوء، والهدوء لا يكون إلا بإلقاء السلاح وتسليمه لهذه الجماعة الرباطية الجالسة على عروشها حين يتفرغ الأعداء للقضاء على الجزائر. فحذار من السقوط في الفخ المنصوب، وإننا على يقين من أن الشعب المغربي سوف يستمر في الكفاح والنضال إلى أن يخرج من بلاد المغرب بل من شمال إفريقيا كلها آخر جندي فرنسي يحمل السلاح من جماعة المستعمرين.
أيها الإخوان
دعاة الهزيمة موجودون في الأقطار الثلاثة من بلادنا، فلا يجوز بأي حال من الأحوال بأن يسمح لهم أن يثبطوا من عزائمنا أو يوهنوا من عقيدتنا في الكفاح الشريف. فالنصر حليف المناضلين في سبيل الحق.
وإننا لا نريد أن تفوت هذه الفرصة من غير أن نلفت نظر الشعب الفرنسي إلى أن إهدار كرامة الشعوب ليس من شيم الأمم المتمدنة، ولا من خصال المؤمنين بالأديان السماوية .. وبالله التوفيق.
عبد الكريم الخطابي
Mamezian.malware-site.www ""